الفريق سعيد الكلباني الذي جاء بشخط ويمشي بشخط “فيا دمعة الإخلاص لا تنضبي فأنتِ بقايا العزة”

حمود السيابي

—————————-
حمود بن سالم السيابي
—————————
لكي أكتب عنْكَ فعليّ أن أفتِّش عن بزَّةٍ ارتديتها ذات مناورة عسكرية لكي تقف الأبجدية في وضعية “التاهية” إجلالاً لك.
ولكي أقدِّم مذكراتِكَ فعليَّ أن أجعل من اليراع بوقاً للنفير العسكري لأعطي الشارة لطابور العرض لأن يكون في وضعية الاستعداد لقدومك.
ولكي أسافر إلى أمْسِكَ المهيب فعلي أن أترنّم بأنشودة :
“حُمَاة الحَقِّ حُرَّاس المَبادئ”
فعودة الزمن تتطلَّب مثل هذه المؤثرات الصوتية الفخمة ليحلو التَّصفُّح لزمنكَ المُدَرَّع بالمجد.
ولكي ألقاك وجهاً بوجه عليّ أن أعود لحارتي المطرحية القديمة وأجتاز السور الذي يفصلنا وأقترب من دروازة مطرح لأستأذن في الدخول على ضابط مركز شرطة مطرح القادم من زعفران أرض البطولات والاستشهاد متشحا أوسمة جروحه النازفة.
إلَّا أنّ الذين كتبوا حول حكايتك الملحمية والرصاصات الغائرة في قدمك والتي زادتكَ طولا وعلوّاً وشموخاً كفوني الكلام وكفوني ارتداء البزَّات والوقوف “تاهية” لأداء التحية العسكرية لك.
ولا غرابة أن يحتفي الكثيرون الذين عرفوك بالملزمة الأولى لشهد الذاكرة لدرجة اضطرار دار النشر تكرار طباعتها عدة مرات فالحديث عن “العسس” كما عَرِفَتْه دولة المدينة ، أو “الدَّرك” كمصطلح راج في الشام ، أو العسكر كما عرفته الحصون العمانية إمامة وسلطنة وانتهاء بالشرطة كما نعرفها اليوم من الأحاديث التي لا تُمَلّ خاصة إذا كان السارد هو أنت بتاريخك المعطر بلبان جبال ظفار ورائحة البارود وأكاليل الغار وطين سواقي فلج مَسْكنْ.
ولعلَّ من حسن التصرف الإبقاء على نفس العنوان لهذا الكتاب كتتمة لما سبق ليبقى “جنديٌّ من مسكن شهد الذاكرة” .
ومن حسنات اختيار العنوان إنه يحرر السَّارد من إلزامات مصطلح المذكرات كالبوح بكل شيئ ، ليبقى ذهن القارئ مدركاً بأنه في حضرة رجل على رأس الهرم الشرطي ، وأمام قائد منضبط له تقديراته في المسموح به والمسكوت عنه والمحظور الاقتراب منه.
كما أن الحرص على وضع عبارة “جندي من مسكن” كمدخل لعنوان الكتاب يحقق الربط في السرد بين الكرسي رقم واحد في قيادة شرطة عمان السلطانية وتراتبية الجلوس في سبلة “مسكن” حيث البدايات الأولى لمدرسة إعداد الرجال وحيث تتشرب الناشئة روح السبلة العمانية فتكبر وهي على معرفة بمواضع أقدامها وأين يجب أن تقف.
وليبقى السطر الثاني في العنوان “شهد الذاكرة” محققا المزج بين ذاكرة البزة العسكرية ودشاديش الحقل والساقية والمواسم فيتوازن العمر الذي ذاب في ساحات المهام وميادين إعداد الرجال مع شوق العودة إلى منازل الخطوة الأولى في البادية بنبلها وطهرها ورصيدها الحميمي.
وليصل السَّارد في النهاية إلى خلاصة مفادها : أنه من هذه المنازل خرج العشاق الذين رضعوا حبَّ الوطن مع حليب الأمهات فكبر فيهم وكبروا فيه وحملوا أرواحهم على الأكف فداء لعينيه.
وها أنت في هذه الملزمة الثانية من المذكرات أو الذكريات أو شجن المناداة للحبيبة عمان تستكمل سيرتك الملحمية كجندي يطاول جبل “النمر” وروحه تتعشق شموخ أبراج “الحصن والمقيشر والمزرع واللمثار وبرج الحصن”.
وفي هذه التتمة من السيرة تتخذ من الجندي سعيد بن راشد الكلباني شخصية محورية لحكاية وطن ينتقل من المخاوف والهواجس التي ربّاها الظلام والجهل والفقر وغياب حماة الحق وحرَّاس المبادئ إلى قيادة الفعل الأمني ليتفيَّأ الوطن مظلة الأمان والطمأنينة والاستقرار.
وتستدعي في هذه الملزمة تاريخ الشرطة بمصطلحها العصري وبنائها التنظيمي وإلى أن ينهي الوطن خدمات المفتش السابع لآخر إدارة أجنبية بإمرة السريلانكي “فليكس دي سيلڤا” وتسلمك الزمام كثامن مفتش عام للشرطة.
وفي هذا الجزء الهام من “شهد الذاكرة” نتقصَّى خطواتك في مسير عسكري طويل لوطن ينتقل من “عسكر” الحصون الذين يتمنطقون “المحازم” ويتنكَّبون “الصَّمْع” ، و”الصَّوَّار” المكلّف بحراسة الممتلكات من التخريب إلى ظهور أول مركز للشرطة تستفتح به مسقط بواباتها التاريخية حيث الجمادار لشكران بن شهبيك الزدحالي يفرض الضبط والربط ويمارس العسس على البيوت الغافية داخل “الرقعة” المسقطية ويضرب طبل “النوبة” ويطلق مدفع طوارئ الليل.
وإلى بناء منظومة أمنية عصرية تعتمد على الأداء الرقمي في إنجاز الخدمات التي تقدمها للجمهور.
وفي هذه التتمة من المسيرة والسيرة سنصافح ضباطا عاصروا العهدين السعيدي والقابوسي وأعطوا لهرواة الشرطة الهيبة وللقبعة الشموخ.
وفيها سنعرف أثر انتقال عمان إلى دولة منتجة للنفط وانعكاسه على أوجه الحياة وبناء أركان الدولة الحديثة بما في ذلك تطور وتحديث العمل الشَّرَطي الذي اتَّسع عددا وعدة وعتادا فتحقق للشرطة العمانية الإعتراف الدولي بقبولها عضواً في المنظمة الدولية للشرطة الجنائية “الانتربول” وذلك في ديسمبر من عام 1972م
وتتحقق خطوة أخرى بتتويج مسيرتها بتكريم رفيع من لدن جلالة القائد الأعلى للشرطة وقيام الخالد الذكر قابوس بن سعيد بتسليمها الراية السلطانية ومعها المسمى الجديد “شرطة عمان السلطانية” وذلك في الرابع من نوفمبر من عام ١٩٧٤م
وكما أتيح لي شرف قراءة ملزمتي السيرة الأولى والثانية فقد مررتُ ببلدة مسكن في يناير من عام ٢٠٢١ لأعيش جغرافية البادية المتكئة على جبل نمر والواقعة على تقاطعات أخفاف القوافل بين عبري والرستاق وحفيت ووادي الحواسنة فرأيتكم في حصونها القديمة وأبراجها الشامخة وجبالها الشاهقة.
وعشت مآثركم في السبلات والدروب.
واقتربتُ من حضوركم في أفراح البلدة وأتراحها.
وكما احتفى القراء بالملزمة الأولى فلا بد وأن يتوقفوا طويلا مع هذه التتمة لنفس الملزمة للسيرة وللمسيرة.
وكما أكدتم أنكم “جئتم بشخط وتمشون بشخط” فإنني أقول أنكم جئتم “بشخط” ولكنكم قبل أن تذهبوا “بشخط” وضعتم “شخوطا” كثيرة هي اليوم دعامات صلبة ارتفع بها وعليها البناء.
وخير ما أختم به ترديد المقولة النبيلة :
يا “دمعة الإخلاص لا تنضبي فأنتِ بقايا العزة”.
———————-
مسقط في ١٣ ديسمبر ٢٠٢٢م.
أعيد نشر المقال مع توارد الأخبار المفجعة برحيله.
أسأل الله له الرحمة والمغفرة.
اللهم آمين آمين آمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى