حين تتّكئ الحكمة على عصا…ويمضي الشيخ

بقلم: عبدالامير العجمي
إعلامي وشاعر عماني
في الزوايا الهادئة من التاريخ، يولد رجال لا تصنعهم المنابر ولا تسبقهم الأضواء، بل تنحتهم الأيام على مهل كما يُنحت الصخر ليصير مقامًا للسكينة. من هناك خرج الشيخ أحمد بن حمد الخليلي؛ بهيبة فجر، وثبات جبل. حضوره هادئ كالإقناع، عميق كسؤال لا يحتاج إلى رفع الصوت، لكنه يترك أثرًا لا يُمحى.
وُلد عام ١٩٤٢، ونشأ في بيت أحب القرآن، وتربى على العلم ليُفهم ويُعمل به. لم يكن سكونًا، بل نبضًا يمشي بعمامة بيضاء، ولحية وقورة، ونية صافية تفيض على ملامح لا تصنعها الأقمشة، بل نور الداخل الذي ينعكس في هدوء النظر وثبات الموقف.
ترافقه عصاه حيثما سار: إلى المسجد، إلى المجالس، إلى المناسبات الرسمية، وفي الزيارات الخاصة. ليست زينة ولا مجرد اتكاء جسد، بل امتداد لخطوة ثابتة، وإشارة إلى ثقل الأمانة. تمضي به إلى حيث يوجد واجب أو نصيحة أو صلح، شاهدة على مسيرة اختارها باتزان، ومذكرة بأن الثبات ليس بطئًا، وأن الاتكاء قد يكون قوة.
آمن أن الأمة لا تُبنى بالشعارات بل بالفعل، ولا تُلملم بالتحزب بل بالتقوى. ورأى أن الشعائر الإسلامية رسائل وحدوية لو قرئت بقلوب سليمة لتقاربت الأرواح كما تتقارب الصفوف خلف إمام واحد. لذلك كان حديثه عن وحدة تبدأ من الداخل، قبل الخوض في السياسة بوصفها إدارة الشأن العام، وقبل الحديث عن الأمن بمعناه الواسع، أي استقرار المجتمع وحفظه من الفتن والاضطرابات.
في المواقف الكبرى كان صوته حاضرًا، نصيرًا للحق لا لطرف، وفلسطين في قلبه قبل بيانه، يراها قضية إيمان لا قضية حدود. لم يتناولها كموسم، بل كمبدأ ثابت، مدركًا أن نسيان القدس مدخل إلى التيه وفقدان البوصلة.
مجالسه تجمع المختلفين وتطفئ الخلاف بالحكمة. لا يفرض الصمت، بل يُلهمه، لأن الصدق إذا حضر استراح الكلام. والعصا ترافقه في كل ذلك، ثابتة في اليد نفسها، ترمز إلى خط لا يتلوى مع تبدل المواقف.
يحمل في قلبه خوفًا نبيلاً على الأمة من بيع اليقين أو التفريط بالثوابت باسم التطور، وأملًا لا ينطفئ بقدرتها على العودة إذا نزعت ثوب الخلاف وارتدت سكينة الإيمان. وفي كل ذلك، العصا شاهدة تتكئ عليها الخطى ويستقيم بها الطريق.
الشيخ أحمد بن حمد الخليلي ليس رجلًا ترويه المناصب، بل رجل تسكنه الرسالة. يمشي كما تمشي الأمة خلفه، ثابتًا، عميقًا، وصمته أحيانًا أبلغ من القول. وحين تتكئ الحكمة على عصا ويمضي الشيخ، يفهم الناس أن ما تحمله اليد هو المعنى قبل أن تكون عصا، وأن الطريق المستقيم يحتاج دائمًا إلى سند.
٩ أغسطس ٢٠٢٥م





