رسالة متأخرة إلى الشيخ جابر في زنجبار

عزيزة راشد
كاتبة عمانية

كنت أحدق في المسجد الذي يتوسط المدينة الحجرية في زنجبار عندما قال لي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، كان الصوت العماني الغارق في عمقه أسمعه لأول مرة بين أزقة زنجبار ، أشار إلي بأن نور عمان افي وجهي ، أبتسمت وشكرته ، لكنه أقترح أن يهديني هدية كانت عبارة عن جلسة ذكر لله مع مريديه مثلما يسميهم ، فهو شيخ الطريقة النقشبندية في زنجبار كما يقول ، وعدته بأن أعود في الغد لحضور تلك الجلسة .

كانت عبارة ( نور عمان في وجهك ) تتردد في أذني وأبتسم ، ليل زنجبار لا يشبه ليالي الظلام في العالم ، ليل تسري فيه الأرواح وكأنها تخرج من بين شقوق الجدران والشرفات الخشبية ورائحة القهوة العمانية بالقرنفل ، ليل زنجبار ليلا حزينا جدا ، خلت الديار من ساكنيها ، وتوحشت قبور الأجداد والأسلاف في ظلمة الليل .

عندما أشرقت شمس زنجبار في ذلك الصباح ، بدت المدينة وكأنها خرجت للتو من لوحة رسام ، أسرعت الخطى إلى المسجد لحضور جلسة الذكر ، كان الشيخ جابر الفارسي ينتظرني مع تلاميذه الذين يسميهم المريدين ، بدأنا جلسة الذكر التي بدأها الشيخ جابر بالحمد والثناء على نبي الله المصطفى ص ثم أخذ يتلوا آيات من القران الكريم أعقبها بأناشيد دينية ، ثم دعى للسلطان قابوس رحمه الله والشيخ مسعود الريامي وحرمه ، إذ كنت في ضيافة الشيخ مسعود الريامي وحرمه وكنا في جولة في المدينة في ذلك اليوم الذي رأيت فيه الشيخ جابر الفارسي ، شكرته كثيرا ووعدته عند عودتي إلى زنجبار مرة أخرى أن أجلب له بعضا من تراب عمان كما أراد ، إذ كان يعشق وطنه الأم عمان وولايته صحار ، ولكن ليالي السعادة لا تدوم في زنجبار التي كانت تنتحب في مساء 1964 م ، ودعته على أمل اللقاء القريب ، لتمضي السنوات وأعود إلى زنجبار مرة أخرى ، لكنني وصلت متأخرة ليلة واحدة ، كانت تلك الليلة هي ما تفصل بين اللقاء والفراق ، بين الحياة والموت ، الجنة والنار ، القحط والغيث ، عندما فأجاني الشيخ سعيد السناوي القنصل العام لسفارة سلطنة عمان في زنجبار بأن الشيخ جابر قد إنتقل إلى رحمة الله البارحة ، كانت كلماته تخترق كل جزيئات ذاكرتي ، لماذا يأتي الموت قبل الولادة ، والفراق قبل اللقاء ، والنهاية قبل البداية ، أستغثت بذاكرتي لتستعد لصياغة سؤال ، ما سبب موته !!

كان صمت الشيخ سعيد السناوي غريبا وعميقا ، أدركت أن الموت لم يصل بعد وأن نهاية عمر الشيخ جابر لم تأتي بعد ، إذن ماذا حدث ؟ ، شرح لي الشيخ سعيد كيف أن يد الإجرام طالت الشيخ جابر ومات مقتولا ، لم استوعب بعد حادثة مقتله ، هل مات الشيخ جابر ، هل مات كله ؟ دهشة الموت نفسها تلك التي شعر بها الزير سالم عندما أخبروه عن مقتل كليب ، متسائلا ، هل مات كليب ، هل مات كله ؟

وهل يموت من يحفظ كتاب الله ويرتل القرآن ، هل يموت المؤمن الصادق الأمين المؤتمن ، كيف يموت وصلواته تتلى في السماء ، ستذكره صدقات الفقراء واطعمة الجوعى وجلسات الذكر في المساجد وحلقات الأناشيد الدينية في المولد النبوي الشريف ، أصابني ما يشبه الجمود ، رحل دون أن أسلمه ما وعدته به ، دون أن أراه وأخبره أن عمان بخير وزاهرة ، عندما أسير بمحاذاة المسجد في أزقه المدينة ، أفتح باب المسجد بحثا عن الشيخ جابر الفارسي ، لا أجده ، فروحه المؤمنه النقيه باتت في أجواف الطيور التي تشرب من ماء الجنة ، وتأوي إلى لأعشاشها المعلقه في ظلال العرش ، وداعا الشيخ جابر الفارسي ، وأنا أيقن أن روحك لاتزال هنا تهيم بين جدران المدينة الحجرية في زنجبار .

زر الذهاب إلى الأعلى