العرب ووهم «الواقعية السياسية»

زاهر المحروقي

بعد اتفاقيات كامب ديفيد، انتشر في بعض الأوساط العربية مصطلح «الواقعية السياسية»، روج له بعضُ الكتّاب والمحللين، ومفاده أنّ على الدول العربية أن تتعامل مع الواقع كما هو لا كما ينبغي أن يكون، حتى وصل الأمر إلى الكفر بكلِّ ما كان مضيئًا في تاريخ الأمة من نضال وكفاح وهدف ومصير، فأثّر ذلك على المسَلّمات عند الجيل الجديد، الذي اهتم بلقمة عيشه، خصوصًا بعدما عزت عليه. كانت الصيحات التي تنادي بهذه الواقعية قليلة وعلى استحياء، ولكن مع تبدل الأوضاع ارتفعت هذه الأصوات وأصبح لها منابر تنادي علنًا بالاستسلام والتبعية وتستغل الدين وبعض الأحداث التاريخية لإثبات صحة هذه الواقعية المزعومة.
وما يؤسف له أنّ هناك محسوبين على الدين، انبروا للهجوم على حماس وأهل غزة، وطوّعوا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لإثبات «صحة» وجهة نظرهم، وهم الذين ورّطوا الشباب المسلم في حروب عبثية لصالح أمريكا في أفغانستان وسوريا وأكثر من مكان. والأصوات التي تنادي بالواقعية لم تأت من فراغ، والدليل على ذلك ما ترجمه موقع «قدس» نقلًا عن صحيفة «معاريف» الإسرائيلية يوم الثلاثاء الماضي، من أنّ «أهم الإنجازات التي سجلتها إسرائيل في حرب المعلومات، نجاحها في تجنيد وسائل إعلام عربية، إذ أصبحت بعض القنوات، من أبرز الأبواق للمؤسسة السياسية الأمنية في إسرائيل، في نشر الرسائل والمضامين خدمة للأهداف الإسرائيلية». ولم تخطئ معاريف، فيما ذهبت إليه، فعنوان مثل هذا العنوان: «إسرائيل تبدأ اجتياح «عاصمة حماس»… وتساوم على تسليم الرهائن والسلاح»!! يكشف رسالة الصحيفة وتوجهاتها السياسية.
في سياق الواقعية المزعومة، قرأتُ مقالًا كتبه عبد الرحمن الراشد في صحيفة «الشرق الأوسط» تحت عنوان «ما بعد هجوم الدوحة»، أشار فيه إلى أنّ الدول العربية التي لها علاقة بإسرائيل لن تقطعها، والدول التي فيها قواعد أمريكية لن تغلقها، ومصر لن تنسحب من اتفاقية استيراد الغاز، وأبو مازن لن يترك السلطة في رام الله. وخلص الراشد إلى أنّ «هذه أثمان سياسية باهظة، ولو ضحّت بها الدول المعنية، فلن تحصل هي أو الفلسطينيون مقابلها على تنازلات أو انتصارات».
لا أتصور أنّ الكاتب أخطأ فيما ذهب إليه. فحسب «المنطق الحالي» يبدو أنّ طرحه – في ظاهره – عقلاني، إذ يعكس حالة من الانهزام السياسي والعسكري الذي تعيشه البلدان العربية، ولولا ذلك الانهزام لما ظهرت مقالات وخطب تدعو إلى «الواقعية» بهذا الشكل الفج، فهي في الواقع غطاء للعجز وتبرير للتواطؤ، ولعل قمة الدوحة كانت دليلًا واضحًا على ذلك العجز.
هذه الأصوات التي تنادي بالواقعية، ليست سوى نتيجة تراكمات عقود من التنازلات العربية، بدءًا من كامب ديفيد، ومرورًا بأوسلو ووادي عربة، ووصولًا إلى موجات التطبيع الأخيرة، رغم العدوان الإسرائيلي على أكثر من بلد عربي وإسلامي، فهذه التنازلات هي التي أعطت قيمة لهذه الأصوات، بعد أن تغيّر الخطاب العربي الرسمي، وتراجع عن لغة المقاومة إلى التغنِّي بالسلام المزعوم، الذي لم يتحقق ولن يتحقق. والغريب أنّ عبد الرحمن الراشد، يرى أنّ كامب ديفيد «أعادت كلَّ سيناء وقناةَ السويس ووفَّرت نصفَ قرن تقريبًا من السَّلام والاستقرارِ لمصرَ»، وأنّ اتفاق «أوسلو بكلّ مثالبِه أعادَ آلافَ الفلسطينيين من منافيهم في تونسَ واليمن إلى الضَّفةِ الغربية. ولولاه ربَّما لما كانَ ممكنًا الحديثُ عن دولة فلسطينية»، وكأنّ الدولة الفلسطينية أصبحت حقيقة، ولا أدري هل لا يتابع صحفيٌّ معروف مثله التصريحات الإسرائيلية التي تقول لا للدولة الفلسطينية؟!.
كانت اتفاقية كامب ديفيد، المفتاح الرئيسي للتحول العربي، وأدت في البداية إلى غياب الدور المصري، وما لبث الأمر أن غابت – فيما بعد – الدول العربية التقليدية، التي كانت تشكّل محور الفعل السياسي في المنطقة، مثل العراق وسوريا، وهي دول كانت تاريخيًّا صاحبة المبادرة والموقف، وكان لها ثقلها العسكري والسياسي، وهذا فتح المجال أمام دول أخرى لتتصدّر المشهد، مستندةً إلى قوتها المالية فقط وليس إلى مشروع سياسي واضح أو إرث نضالي، وأصبحت هذه الأنظمة تقود الدول الرئيسية، ومع ذلك لم تستطع أن تسد الفراغ الذي تركته مصر وسوريا والعراق. وكانت نتيجة هذا التبدّل في موازين القيادة العربية أن انعكست على طبيعة الخطاب العربي الرسمي نفسه، فظهر من يروّج للواقعية وقبول الأمر الواقع.
لم تصل إسرائيل إلى ما وصلت إليه من قوة وغطرسة إلا بضعف العرب، الذين آمنوا بالواقعية، فتنازلوا عن أسباب القوة والكرامة، لذا لم تتوقف عن التوسع، ولم تُبدِ أيّ استعداد لتقديم تنازلات حقيقية لا للفلسطينيين ولا للعرب المطبعين وغير المطبعين، والأمر المر أنّ أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية أصبحت تلعب دورًا أمنيًّا داخليًّا لقمع فصائل المقاومة داخل الضفة الغربية، تحت ذريعة «التنسيق الأمني».
والسؤال الأهم الآن: هل هذه الواقعية التي يُروَّج لها هي فعلًا واقعية؟ الواقع يقول إنّ الشعوب العربية لا تزال ترى في فلسطين قضية مركزية، وتبدي سخطًا على الضعف العربي الرسمي، وتمارس ما يُعرف بـ«المقاومة السلبية» بعدم تفاعلها مع الأنظمة ولا مع قممها وقراراتها. وأصعبُ شيء ألا تعترف الشعوب بأنظمتها، وأن تكون العلاقة بين الطرفين مبنية على الخوف فقط، فحين تحين الفرصة الحقيقية سيظهر كلُّ المخبوء.
والسؤالُ السابق يقودنا إلى سؤال آخر: هل الثمن السياسي الذي يُحذَّر منه، هو فعلًا ثمن باهظ لا تستطيع الأمة العربية مجتمعة دفعه؟ هناك أثمان تُدفع من أجل العزة والكرامة والمبدأ، على الأقل أن تستعيد الأمة شيئًا من احترام شعوبها، وشيئًا من مصداقيتها وقدرتها على التأثير.
هناك حقائق لا يمكن أن تتغيّر مهما تغيّر الخطاب، ومنها أنّ القضية الفلسطينية لا يمكن أن تُدفن تحت ذرائع «الواقعية» التي تُستخدم غالبًا غطاء للعجز أو التواطؤ، ومن هذه الحقائق أيضًا أنّ «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة» كما قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. فكلُّ التنازلات العربية طوال العقود الماضية لم تقدِّم شيئًا ذا بال للعرب، ولم تثن الكيان الإسرائيلي عن غطرسته، ولكن الغريب أنّ هناك من يؤمن أنه بإمكان هزيمة إسرائيل سياسيًّا – كما يذهب إلى ذلك الراشد في مقاله – ويقول إنّ إسرائيل تفضّل المعاركَ العسكرية وتخشى من المواجهات السياسية، وأنّ العمل السياسي يقلقها ويزعجُها!، لذا يرى أنّ «الطروحات السياسية، مثل حلّ الدولتين، ستجدُ قبولًا عند فئة من الشّعب الإسرائيلي وستكسب شرائحَ أكثر مع الوقت. لأنَّ الحلَّ سيقدِّم الضمانات بدلًا من حروب نتنياهو، أي تأمين أمن الإسرائيليين ومنع تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر»!.
إسرائيل لم تصبح واقعًا إلا لأنها قوية عسكريًّا؛ وبهذه القوة فرضت نفسها على الخريطة، وأصبحت الدول العربية لا تساوي شيئًا أمامها، فلم تصل إلى ما وصلت إليه عن طريق السياسة أو الدبلوماسية. لقد سيطرت على المنطقة بما تملكه من ترسانات الأسلحة، أما القول بأنها تخشى السياسة، فهو كلامٌ يعلم كاتبُه تمامًا أنه ليس صحيحًا، فالقوة العسكرية هي العامل الحاسم الذي يشكِّل موازين السياسة، مهما تنوعت أدوات السياسة أو تعالت شعارات الحوار. وعبر التاريخ كله مَن ملك القوة مَلك زمام قيادة الأمور.
على مدى نصف قرن والعربُ يتغنون بالسلام، مرةً يسمونه «سلام الشجعان»، ومرةً «سلام الأقوياء» ومرةً «السلام الاستراتيجي»، ويؤمنون بالمفاوضات والحل السياسي، لأنهم لا يملكون قوة لمواجهة إسرائيل عسكريًّا، وبالتالي فهم لا يملكون أدوات التفاوض سياسيًّا، بل إنهم لا يملكون أيَّ أسباب أخرى للقوة، مثل العلم والتكنولوجيا وغيرها من أدوات القوة في العصر الحديث، ومن هنا حاولوا إقناع أنفسهم بأنّ حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب، فماذا كانت النتيجة؟!. استباحة إسرائيل الأوطان العربية والإسلامية مجتمعة، وظهور الأصوات التي تنادي بالواقعية، ولم تكن حرب 73 هي آخر الحروب.
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي

• المصدر : جريدة عمان

زر الذهاب إلى الأعلى