دراسة علمية تؤكد: مصر بوتقة الانصهار العالمي للجينات الوراثية. .. وتكشف أسرار الجينات المصرية وتأثيرها في الخريطة الجينية العالمية

القاهرة – الواحة
من عبير مسعد
لطالما كانت مصر، بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي عند ملتقى قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا، نقطة محورية للحضارات والتجارة والهجرة، ومؤخرا كشفت دراسة علمية رائدة أجريت في مصر عن بعد جديد لهذا الدور التاريخي، مؤكدة مكانتها كـ “جسر جيني” يربط بين الكتل السكانية الكبرى عبر العصور، حيث قدمت أوضح مرجع جيني شامل للمصريين حتى الآن.
الدراسة قام بها الدكتور طارق طه أحمد على، استشاري الأبحاث الجينية والطب التجديدي، وتأتي في إطار التوسع المثير لعلم “الجينومات التراثية” (Archaeogenetics)، الذي عرفه العالم كولين رينفرو بأنه تطبيق الوراثة السكانية الجزيئية على دراسة الماضي البشري. فبينما كان هذا العلم يستخدم في مصر خلال الفترة الماضية لتحديد صلة القرابة بين الملوك والأسر الملكية، وتحديد هوية المومياوات ودراسة أسباب وفاة مشاهير القدماء، يذهب البحث الجديد إلى ما هو أبعد، ليقدم أول مرجع جيني شامل للمصريين المعاصرين.
شملت الدراسة، التي تميزت بضخامة حجم العينة، بيانات جينية لـ 1000 مواطن مصري لا توجد بينهم صلة قرابة تم تجميعهم عشوائيا في الفترة من 2008 حتى 2015، جميعهم من أبوين وجدين مصريين، واتسمت عينة الدراسة بالتنوع الجغرافي لأفرادها، حيث شملت جميع فئات ومناطق المجتمع (مسلمين ومسيحيين – نساء ورجال – من شمال وجنوب مصر ومختلف أرجائها). وخلال الدراسة تم مقارنة تلك التوزيعات الجينية للمصريين مع أكثر من 60 دولة ومجموعة عرقية، للكشف عن وضع مصر الجيني على المستوى الدولي. وأظهرت النتائج وحدة وراثية قوية بين المصريين، حيث بلغت نسبة التقارب الجيني بين المواطنين التي اشتملت عليهم الدراسة ويمثلون كافة المناطق، ما يقارب 97.66%. وتوافقت هذه النتيجة مع دراسة أجريت في جامعة لوبك الألمانية في إثبات أن المجموعة المصرية متجانسة جينيا، مما يؤكد مفهوم “أمة واحدة، دم واحد” بين المسلمين والمسيحيين المصريين.
واتفقت النتائج أيضا مع دراسة معهد ماكس بلانك في أن المصريين يرتبطون بشكل وثيق بشعوب منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والمعروفة باسم الشرق الأدنى، بما في ذلك دول مثل فلسطين، لبنان، سوريا، العراق وعمان. وأظهرت مصر أعلى درجة تقارب مع المتوسط الجيني العالمي (GGP)، حيث كانت الجينات المصرية الأقرب إلى المتوسطات الجينية العالمية في 15 كروموسوم بنسبة تقارب وصلت إلى 96.73%. أما النتيجة الأكثر إثارة فتتمثل في التأكيد على الدور التاريخي لمصر كـ “بوتقة الانصهار العالمي للجينات” نتيجة كثرة الهجرات والغزوات التي مرت بها، وأثبتت الدراسة أن مصر تحتل موقعا متوسطا بين الكتل الجينية القارية الكبرى، لتكون بمثابة “جسر جيني عالمي” يربط بين القارات.
أظهرت النتائج تقاربا جينيا قويا مع سكان شمال إفريقيا، الشرق الأوسط، وأوروبا الجنوبية، والشرق الأدنى، مع وجود تباعد جيني واضح عن سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وشرق آسيا. وتوافقت الدراسة أيضا مع نتائج دراسة أجريت في جامعة كامبردج في أن نسب التوافق الجيني العالمي بين الدول والمجموعات العرقية الواردة بالدراسة (62 دولة ومجموعة عرقية) مع مصر بلغت 86.52%، بينما بلغت نفس النسبة بالمقارنة مع أثيوبيا 68%، كما توصلت الدراسة إلى أن عدد الفوارق الإحصائية في الأماكن الكروموسومية بين مصر والمجموعات العالمية الواردة بالدراسة بلغ 59 فارقا، بينما بلغ بالنسبة لأثيوبيا مع المجموعات العالمية 125 فارقا. هذا يعكس تقاربا جينيا أوثق لمصر مع المجموعات الأوراسية والمتوسطية مقارنة بإثيوبيا التي تظهر تقاربا أكبر مع شعوب أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وتوصلت الدراسة أيضا إلى أن المصريين أقرب جينيا إلى السودان مقارنة بإثيوبيا، وهو ما يؤكد التدفق الجيني المستمر على طول نهر النيل.
جدير بالذكر أن الدراسة لا تسلط الضوء فقط على البنية الجينية المتجانسة والغنية للشعب المصري، بل تعزز فهم السياق العالمي للتنوع البشري، مؤكدة على الدور التاريخي، والجغرافي، والجيني الذي لعبته مصر كمحور رئيسي ومركز تواصل جيني على خريطة العالم عبر العصور.
تعليقا على الدراسة يقول دكتور طارق طه أنها تبرز أن النتائج الجينية المصرية المعتمدة على مؤشرات (STR) تقدم نموذجا علميا يعكس مكانة مصر كمحور رئيسي في الخريطة الجينية العالمية، حيث كانت بمثابة جسر الانتقال الجيني للعالم. وتؤكد على وجود جذور ديموغرافية محلية عميقة متجذرة في التاريخ السكاني المصري، مما يجعل من مصر نقطة التقاء فريدة تجمع بين الأصالة الجينية والتنوع الناتج عن تدفقات جينية متعددة عبر الزمن كما تؤكد على دور مصر كحلقة وصل جينية بين الكتلتين الأفريقية والأوراسية. وتعتبر هذه الدراسة الأولى من نوعها التي يتم إجراؤها بكامل مراحلها داخل جمهورية مصر العربية، من حيث جمع العينات وتشغيلها وتجميع النتائج وعمل الدراسات الإحصائية عليها وصولا لتحليل تلك النتائج وتحقيق الأهداف البحثية الموضوعة، كما تميزت بضخامة العينة مما جعلها أكبر بكثير من الدراسات السابقة التي تناولت المصريين، حيث لم تتجاوز في أكبرها 265 عينة.
ويضيف دكتور طارق أن نتائج الدراسة تتوافق مع نتائج العديد من الدراسات العالمية، وأشار دكتور طارق طه إلى أن علم الجينومات التراثية، رغم أهميته في دمج الجينوم القديم بالبحوث الأثرية، قد يستخدم لأغراض سياسية خطيرة. ويوضح أن هذا العلم قد يطوع أحيانا لخلق هويات وطنية زائفة ودفع أجندات بيولوجية عنصرية، مما يؤدي إلى تزييف التاريخ. ويضرب مثالا بحركة الأفروسنتريك، التي حاولت إثبات ادعاءات متطرفة، مثل زعم تشابه جينات سكان بلاد بونت (الحبشة) مع قدماء المصريين، كما روج لها منظرون مثل الشيخ أنتا ديوب.





