اغتصاب العقول.. فنا وعلما وأشياء أخرى!!

بقلم/ الدكتور مجدي العفيفي
الاغتصاب يبدأ من العقل، وإذا اغتصب العقل سقطت بقية الإعضاء، ولعبة الاغتصاب تتجاوز المعنى الفردي والأخلاقي الضيق إلى الشعوب والجماعات والدول، وفي كافة المسارات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وغيرها.
كثيرا ما كنت أسمع الواقعة التالية من أصدقاء مثقفين هنود الجنسية، وأكثرهم من الصحفيين، أثناء وجودي الصحفي في منطقة الخليج. وكنا نستفيض في تحليل دلالتها – والتي لا تزال ماثلة أمامنا حتى الآن، وتتخذ أشكالا متعددة ومتجددة، وستجدد دائما، أنه ﻓﻲ مدينة «ﻧﻴﻮﺩﻟﻬﻲ» عاﺻﻤﺔ الهند – عندما كانت واحدة من مستعمراتها المحتلة، التي لا تغرب عنها الشمس كما كان يروج لهذا المسمى الكاذب من قبل المغرضين – وأكثر ما كانت بريطانيا العظمى تركز عليه هو «الدين» الذي تكيِّفه كيف شاءت، ليكون سلاحا بيدها للسيطرة على العقول واغتصابها كما يجمع المحللون.
ﻛﺎﻥ ﺳﻔﻴﺮ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ ﻳﻤﺮ ﺑﺴﻴﺎﺭﺗﻪ ﻣﻊ ﻗﻨﺼﻞ بلده، ﻭﻓﺠﺄﺓ ﺭأﻯ ﺷﺎﺑﺎ ﻫﻨﺪﻳﺎ ﺟﺎﻣﻌﻴﺎ ﻳﺮﻛﻞ ﺑﻘﺮﺓ، ﻓﺄﻣﺮ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﺳﺎﺋﻘﻪ بأن ﻳﺘﻮﻗﻒ ﺑﺴﺮﻋﺔ، ﻭﺗﺮﺟّﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﻣُﺴﺮﻋﺎ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ «ﺍﻟﻤﻘﺪﺳﺔ» ﻳﺪﻓﻊ ﻋﻨﻬﺎ ذلك ﺍﻟﺸﺎﺏ ﺻﺎﺭﺧﺎ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ، ﻭﻳﻤﺴﺢ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺪﻫﺎ، ﻃﻠﺒﺎ للصفح ﻭﺍﻟﻤﻐﻔﺮﺓ، ﻭﺳﻂ ﺩﻫﺸﺔ ﺍﻟﻤﺎﺭﺓ، ﺍﻟﺬﻳﻦ اﺟﺘﻤﻌﻮﺍ ﺑﻌﺪ ﺳﻤﺎﻉ ﺻﺮﺍﺧﻪ، ﻭﻭﺳﻂ ﺫﻫﻮﻝ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﻳﻦ. .
ثم اﻏﺘﺴﻞ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﺍﻟﺒﺮﻳﻄﺎﻧﻲ ﺑﺒﻮﻝ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ، ﻭﻣﺴﺢ ﺑﻪ ﻭﺟﻬﻪ! ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺭﺓ إﻻ أﻥ سجدوا ﺗﻘﺪﻳﺮﺍ للبقرة التي ﺳﺠﺪ لها ﺍﻟﻐﺮﻳﺐ، ﻭأحضرﻮﺍ ﺑﻌﺪﻫﺎ اﻟﺸﺎﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﺭكل البقرة ﻟﻴﺴﺤﻘﻮﻩ أﻣﺎﻡ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ، اﻧﺘﻘﺎﻣﺎ ﻟﻘﺪسية ﻣﻘﺎﻣﻬﺎ ﻭﺭﻓﻌﺔ ﺟﻼﻟﻬﺎ. (!!)
ﻋﺎﺩ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﺑﺮﺑﻄﺘﻪ ﻭﻗﻤﻴﺼﻪ ﺍﻟﻤُﺒﻠﻞ ﺑﺎﻟﺒﻮﻝ، ﻭﺷﻌﺮﻩ ﺍﻟﻤﻨﺜﻮﺭ، ﻟﻴﺮﻛﺐ ﺳﻴﺎﺭﺓ اﻟﺴﻔﺎﺭﺓ إﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﻘﻨﺼﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﺎﺩﺭﻩ باﻟﺴﺆﺍﻝ ﻋﻦ ﺳﺒﺐ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ، ﻭﻫﻞ ﻫﻮ ﻣﻘﺘﻨﻊ ﺣﻘﺎ ﺑﻌﻘﻴﺪﺓ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﺒﻘﺮ هذه ؟!.
فماذا قال هذا السفير «ابن الامبراطورية البريطانية العظمى؟! أجاب إجابة تعكس عبقرية الطغيان على العقول إذ قال:«إن قيام ﺍﻟﺸﺎﺏ بركل اﻠﺒﻘﺮﺓ هو ﺻﺤﻮﺓ، ﻭﺭﻛﻠﺔ ﻟﻠﻌﻘﻴﺪﺓ الهشة، ﺍﻟﺘﻲ ﻧﺮﻳﺪﻫﺎ أن تستمر، ﻭﻟﻮ ﺳﻤﺤﻨﺎ ﻟﻠﻬﻨﻮﺩ ﺑﺮﻛﻞ ﺍﻟﻌﻘﺎﺋﺪ ﻟﺘﻘﺪﻣﺖ ﺍﻟﻬﻨﺪ ﺧﻤﺴﻴﻦ ﻋﺎﻣﺎ إﻟﻰ الأمام، ﺣﻴﻨئذ ﺳﻨﺨﺴﺮ ﻭﺟﻮﺩﻧﺎ ﻭﻣﺼﺎﻟﺤﻨﺎ ﺍﻟﺤﻴﻮﻳﺔ، ﻓﻮﺍﺟﺒﻨﺎ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﻲ ﻫﻨﺎ، أﻥ ﻻ ﻧﺴﻤﺢ ﺑﺬﻟﻚ أﺑﺪﺍ، ﻷﻧﻨﺎ ﻧُﺪﺭﻙ أﻥ ﺍﻟﺠﻬﻞ ﻭﺍﻟﺨﺮﺍﻓﺔ والتعصب الديني، والمذهبية الفاسدة، ﻭﺳﻔﺎﻫﺔ ﺍﻟﻌﻘﻴﺪﺓ، ﻫﻲ ﺟﻴﻮﺷﻨﺎ التي نعتمد عليها ﻓﻲ ﺗﺴﺨﻴﺮ ﺍلمجتمعات (!) .
*
أستدعي هذه الواقعة ذات الدلالات العميقة، إذ تشير وتؤكد ما يسمى في الأدبيات السياسية«فن اغتصاب العقول» وأناظرها بحادثة ذات دلالة واسعة، حين اكتشف البريطاني«كوك» جزر هاواي، ووجد أهلها فيه تجسيدا لأساطيرهم، التي تحدثهم عن إله أبيض يجيء فوق جزيرة عائمة، أي فوق سفينة كبرى، ونزل كوك إلى الجزيرة وأذهلهم عندما أشعل سيجارا، وأخرج الدخان من فمه وأنفه.
ورأى أهل هاواي في ذلك معجزة، فالدخان يخرج منه، والرجل لا يحترق، فسقطوا على الأرض ساجدين، ثم وضع يديه في جيبي بنطلونه، فانهاروا بين يديه، فقد خيل إليهم أنه يضع يديه في بطنه ويخرجهما، دون أن يسقط بطنه، ولكنه بعد ذلك كان عنيفا قاسيا غليظا، فجاوز بذلك احتمالهم، فأطلقوا عليه – وهو الإله – سهما أصابه فنزف دمه، وسقط على الأرض، هنا أيقن هؤلاء البدائيون أنه ليس إلها، فتكاثروا عليه وقتلوه، لقد قتلوه في نفوسهم قبل أن يقتلوه على الأرض!.
*
هاتان الواقعتان ارتسمتا أمامي، وأنا أتابع محاضرة أمريكية، قالوا إنها«أخطر محاضرة في التاريخ الحديث حيث توضح كل ما جرى ويجري من حروب وصراعات أهلية مسلحة في العالم الإسلامي» وقد ألقاها «ماكس مانوارينج» خبير الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات التابع لكلية الحرب الأمريكية، وهو ليس خبير الجيل الرابع للحرب فحسب، بل ضابط مخابرات سابق، لم يلق المحاضرة في روضة أطفال ولا في مركز ثقافي، بل لجنرالات كبار في الكيان الصهيوني، وحلف الناتو، والمكان في عاصمة ذك الكيان البغيض، بتاريخ 1 /12/2018.
استهل «ماكس» محاضرته بالإشارة إلى أن أسلوب الحروب التقليدية صار قديما، والجديد هو الجيل الرابع من الحرب «ليس الهدف تحطيم المؤسسة العسكرية لإحدى الأمم، أوتدمير قدرتها العسكرية، بل الهدف هو : «الإنهاك التآكل البطيء» لكن بثبات، فهدفنا هو ارغام العدو على الرضوخ لإرادتنا» !.
ويقول بالحرف الواحد «الهدف زعزعة الاستقرار. وهذه الزعزعة ينفذها مواطنون من الدولة العدو لخلق الدولة الفاشلة، وهنا نستطيع التحكم، وهذه العملية تنفذ بخطوات ببطء وهدوء وباستخدام مواطني دولة العدو، فسوف يستيقظ عدوك ميتا»!.
وأكثر ما يلفت الانتباه في هذه المحاضرة هي عبارة : «الإنهاك، والتآكل البطيء» هي العبارة التي تلفت الانتباه، والتي ركز عليها المتحدث، ثم شرحها بقوله «معنى التآكل البطيء يعني خراب متدرج للمدن، وتحويل الناس إلى قطعان هائمة، وشل قدرة البلد العدو على تلبية الحاجات الاساسية، بل تحويل نقص هذه الحاجات الى وجه آخر من وجوه الحرب، وهو عمل مدروس ومنظم بدقة».
وفي عبارة وصفت بأنها «مبطنة بوقاحة» ألقاها ذلك المحاضر: «في مثل هذا النوع من الحروب قد تشاهدون أطفالا قتلى أو كبار السن، فلا تنزعجوا..(!) علينا المضي مباشرة نحوالهدف» بمعنى لا تتركوا المشاعر أمام هذه المشاهد تحول دون تحقيق«الهدف» و«الأسلوب نفسه طبق، ويطبق في العراق وسوريا واليمن، وفي ليبيا، وغدا لا ندري من سيكون عليه الدور؟ ».
ويبقى السؤال: لماذا «الانهاك والتآكل البطيء، بدلا من إسقاط الدول مرة واحدة؟ والجواب: أن استراتيجية الإنهاك تعني نقل الحرب من جبهة إلى أخرى، ومن أرض إلى أخرى، واستنزاف كل قدرات «الدولة العدو» على مراحل متباعدة، وجعل «الدولة العدو» تقاتل على جبهات متعددة محاصرة بضباع محليين من كل الجهات، والتخطيط لتسخين جبهة وتهدئة جبهة أخرى، أي استمرار إدارة الأزمة وليس حلها.
ولكي لا يتم انهيار الدولة السريع، لأن الانهيار السريع يبقي على كثير من مقومات ومؤسسات الدولة والمجتمع،.. وبالتالي فإن أفضل الطرق هو التآكل البطيء، بهدوء وثبات عبر سنوات من خلال محاربين «محليين شرسين وشريرين» كما يقول هو، بصرف النظر عن وقوع ضحايا أبرياء، لأن الهدف هو السيطرة، وتقويض الدولة والمجتمع أهم من كل شيء، أي محو الدولة والمجتمع عبر عملية طويلة.!
ترى.. هل يحتاج الأمر إلى جهد كبير في «المناظرة» بين واقعنا في المنطقة، وبين هذا التنظير الوحشي؟.
*





