الثعلب والطبل..

بقلم:
د. إسحاق بن أحمد البلوشي
Isehaq26927m@gmail.com


في أول الفجر وبداية النهار وأنا أتصفح بعضًا من الأخبار وأتنقل بين صفحات الكتب والآثار، وجدت في القديم أن ثعلبًا أتى أجمةً فيها طبل معلق على شجرة وكلما هبت الريح تحركت أغصان تلك الشجرة أصابت الطبل فأحدث صوتا شديدا، فما أن سمع الثعلب ذلك الصوت أثار استغرابه وفضوله وتوجه نحوه حتى انتهى إلى المكان، فلما رآه ضخما قال الثعلب في نفسه: إن هذا لخليقٌ بكثرة اللحم والشحم، فما عليَّ إلا أن أعالجه أشد العلاج، فلما أضجعه وشق بطنه وغاص في أعماقه رآه أجوفًًًا لا شيء فيه، فما أن وجد ذلك قال حينها: أيقنت اليوم يقينًا لا يشوبه الشك، وفهمت فهمًا لا يخالله الظن بأن أفشل الأشياء وأقبحها أضخمها جثةًً وأعظمها صوتا.
فما أن وقع ذلك على مسمعي وحل طرفٌ منه على خاطري، تذكرت حينها أن في القديم جديدًا وتيقنت أن في الجديد قديمًا، وما شأن ذلك الثعلب والطبل إلا كشأننا وشأن تلك القنوات المنتشرة اليوم التي لها من القوة أن تشدَّ آذان الانسان والحيوان شدَّا ليسمعوا ما فيها من النغم، وتجبر النيام والعميان جبرًا ليروا ما فيها من الوهم، فما أن تقترب الآذان وتبصر العيون لا يجدون إلا كما وجد ذلك الثعلب من ذلك الطبل.
ما أشد حاجة المجتمعات اليوم إلى التعاطي مع الفكر والأفكار وأصحابها، وما أشد حاجتها أيضا اليوم إلى إعمال العقل في المتاح والمعلوم للوصول الى معرفة الغائب والمجهول، وأن المجتمعات إذ تقرر هذا وحاجتها إليه تقرّ في الوقت ذاتِه أنه لا سبيل إلى ذلك إلا من خلال إيجاد الأدوات الملائمة لاحتواء هذه الأفكار، ومناقشتها المناقشة المنهجية الصحيحة، وتنقيتها من الشوائب واللِوث الذي أصابها، ليتم تصديرها ولا يكون فيها الخلل عندما تلتقي مع حرية التعبير، ولا يكون فيها الضرر عندما تلتقي مع رغبة التغيير.
عند هذا نجد أن التقنية وذكاء الإنسان باختلاف أشكالها وأنواعها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من مكون المجتمعات اليوم، وأصبحت مواقعها الإعلامية وقنواتها الأداة الرئيس في نقل الفكر ومناقشة الأفكار وتصديرها، لكن في الجانب الآخر هل تساءلت المجتمعات عن آلية عمل هذه القنوات ومدى احترافيتها وتخصصها وكيف تشكَّلت وتكوَّنت، وهل تساءلت عن الذين يديرونها وما هي قدراتهم ومؤهلاتهم وهل يرتقي هؤلاء إلى مستوى القضايا التي يناقشونها وإلى مستوى الفكر والأفكار التي يطرحونها، أم أنها تشكَّلت وتكوَّنت في ليل حالك السواد يغشاه سواد من فوقه سواد فلم يعرف رأسها من ذيلها.
أليس الذي يجري في سوق مواقع الفساد الاجتماعي استغفر الله من زلة اللسان، بل هي مواقع التخلف الاجتماعي أستغفر الله من زلة القلم، بل هي مواقع التباعد الاجتماعي أستغفر الله من زلة الفكر وسقطة العقل، بل هي مواقع التواصل الاجتماعي كما يزعمون مدعاة للأسى والحزن وحري من ذوي العقول والأفهام أن يعاد النظر فيه وفي تنظيمه؟ ووالله إني أرى أنها لتوشك أن تهوي بالفكر والأفكار إلى قاع التخلف سبعين ألفَ خريفٍ، بل مئة ألفِ خريفٍ، بل تهوي به إلى قاع الجهل والسخف إلى قيام الساعة ولا يقوم لها قائمة، ولا يبقى منها باقية ما دامت هذه القنوات وأصحابها الذين أصبحوا بين عشية وضحاها عمالقة الإعلام والحوار وفلاسفة الفكر والأفكار.
ألا يسترعي ما يجري اليوم في هذه القنوات انتباه المؤسسات والقائمين عليها وطرح الاستفهامات حولها؟ لماذا توجد مناهج الإعلام وأقسامها في الجامعات والكليات وفي المؤسسات الأكاديمية؟ لماذا تشترط بعض المؤسسات الحصول على المؤهلات العلمية والخبرات العملية لمن أراد ممارسة بعض المهن مثل المحاماة والطب والتدقيق وغيرها؟ وأن يكون متفرغًا تفرغًا كاملاً من القطاعين العام والخاص وغيرها من الاشتراطات المعقدة والمستفزة في بعض الأحيان، وفي المقابل لا تشترط سوى الجهل والسخف لمن أراد أن يمارس الإعلام، ألا توازي مهنة الإعلام هذه المهن؟ أليس لها من التأثير على المؤسسات والمجتمعات وصلاحها مثل غيرها من المهن؟ لماذا يُترك الحبل على الغارب عندما يتعلق الأمر بالعقائد والافكار؟ لماذا لا تطبق الشروط والأحكام عندما يتعلق الأمر بقضايا الإنسان وأخلاقه؟
ما أثقل المقام والمقال شيئًا أكثر مما رآه وسمعه من فوضى الإعلام وانتشار الخبث والخبائث فيه، وما جرَّ ذلك على الإنسانية من مخاطر زعزعة قيم العيش والمساس بكرامة الإنسان وتقويض الوعي المتوازن فيه، وما نتج عنه من إشاعة خطابات الكراهية بينهم وانتهاك الحياة الخاصة لهم، فضلًا عن التعدي على الملكيات الفكرية للغير والاستيلاء عليها دون حسيبٍ أو رقيب.
إن غياب تقنين ممارسة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي للتعاطي مع قضايا الإنسان وأخلاقه له ما له من الحرية وعليه ما عليه من التفاهة في الحرية، أما وإنها كذلك فقد أفرزت نتاجًا وإرثا ثقيلًا ثقل الجبال على الإعلام والفكر وأخلاق الإنسان لا يستطيع الإعلام نفسه أن ينسبها إليه، فما كان نتاج ذلك إلا أن ظهر محفوف باللغط وحيرةٌ في العقل وجلسة مع القهوة وكثير من الأشكال والألوان التي لا تعد ولا تحصى وكثير من أسماء الوجبات السريعة والبطيئة، وكثير من أسماء الحيوانات والبغال والحمير أطلقوها ليركبوا عليها ويبلغوا بها صرح الإعلام.
لا عجب أن يأتي أصحاب هذه القنوات بالشاذ المبتدع وبالقبيح المخترع، ولا عجب أن يقبل بعض السذج والتافهين دعواتهم فقد تقاطعت مستويات الفهم وتلاقت رغبات الشهرة والظهور فالطيور على أشكالها تقع، لكن العجب كل العجب أن يقبل ذوي الأفهام والعقول ممن عُرفوا وعرَّفوا أنفسهم بالباحثين والمفكرين والخبراء والمستشارين وأيضا من أكابرة الإعلام نفسه مجالستهم وأن يتسابق هؤلاء في الحضور إلى قنواتهم وندواتهم، فما أن يلتقي سذاجة الفكر وتفاهة الأسئلة والمحتوى بطموح العباقرة والمفكرين ورغبات الدكاترة والمثقفين يتمخض عنه ما لا يخطر على البال من المصائب العظيمة على الإنسانية ومن الأحكام الظالمة المشينة على البشرية.
سأضرب هنا مثلًا لحادثة الطوفان المستمرة وحادثة الاثني عشر يوما المنتهية في باقي السطور والكلمات وفيما يأتي من الخواطر والآهات وكيف تطفل عليها أصحاب القنوات وباعوا وشروا فيها، فقد تعمد المقال أن ينتظر طويلا بعد أقوالهم وألا يبوح بسره إلا بعد انقضاء الأيام والشهور وبعد مضي الأزمان والدهور ومرور السنوات تلو السنوات ليكشف ظلم هذه القنوات ويفضح جهل أصحابها.
ما أن بدأ طوفان أكتوبر جاءت القنوات مسرعة ونادت أصحابها أن اركبوا بسم التواصل الاجتماعي مجراها ومرساها ولا عليكم سوى التحليل والتحليل عسى أن ننال ونحظى ولو بشيء بسيط من (حلل يا دويري) ومما جاء في الجزيرة الذهبية هيهات هيهات!! (حلل يا دويري) انطلقت من صاحب الأرض إلى صاحب الاختصاص والعلم، (حلل يا دويري) خرجت من قلب عايش المحنة إلى قلب عايش علوم المحن فهو بخيرها وبشرها ذو علم فطين، (حلل يا دويري) جاءت من دفاع الانتماء والأرض إلى دفاع الكلمة والعرض فالتقت بمواقع الشرف والرفعة واحتضنت مواطن الصدق والإخلاص.
فلم تلبث هذه القنوات إلا أن جاءت بالعظيم وقالوا في القهوة وأخواتها بأن الطوفان وما فوقه جاء من غاز الأرض وما تحته واختزلها صاحبها في هذا مترنمًا فرحاً بأنه صاحب النظرة الثاقبة ضاحكًا مستبشرًا بأنه صاحب الفهم العبقري الذي لم يسبقه إليه أحد من الأولين والآخرين وقال ستثبت لكم الأيام صحة ما قلته وخطأ ما قالوا لكن القهوة التي ارتشفها واختها التي امتصها تذكره بعد سنة أو سنتين أو ما يزيد هل لا زال غاز الأرض من تسبب بالطوفان أم هو وقهوته وما جاءوا به من البهتان.
ثم جاء من أقصى الأرض محفوف باللغط يسعى يجر ثوبه وقال: إن الطوفان قد ظلم اليهود وأن اليهودية قريبةٌ كل القرب من الإسلام، ولماذا يتهم اليهود بتدنيس الأقصى وما الأقصى إلا بناء ٌمن طوب، وهل يتدنس الطوب والحجر من طهارة الإنسان؟! فما أن سمع هذا أحدهم تساءل وقال: هل تتدنس الأرض ويتنجس الشجر من أقوال الصبيان وأفعال العميان؟ ثم زاد على ذلك وقال: هل استخدم في بناء الكعبة غير الطوب والحجر، وإن كان كذلك فهل تتدنس الكعبة وحرمات البيت من طغيان البشر؟ ولا زال ينتظر ردًا على أسئلته لعل محفوف باللغط يجيب أو يتفكر، أو لعله يستجيب أو يتدبر.
ثم جاء من قريب حيرة في العقل وقد اتهم نفسه فلم يجد ما يصف به نفسه وعقله إلا بالحيرة والنقص في فهم الواقع ومعنى الوجود، فلم يستطع أن يفسر معاني الطوفان ولم يستطع أن يستجمع فكره وعقله فذهب إلى استضافة بعض الفلاسفة والملحدين في مشارق الأرض ومغاربها، عسى أن يجد معهم شيئًا يعيد به توازن عقله وحيرته ولم يتذكر أبدًا بأن فاقد الشيء لا يعطيه. ولولا رحمة الله ولطفه في حادثة الاثني عشر يوما لجاءوا بالإفك العظيم.
لا أريد أحدًا أن يفقد سمعه إذا طرح المقال كل ما سمع، ولا أريد أحدًا أن يفقد بصره إذا جاء المقال بكل ما رأى، أو ينخلع فؤاده إذا……. أو يختل عقله إذا ……… لكنها غيض من فيض أرادت الكلمات أن تكاشف القنوات وسرف القول، وتناقش البرامج وترف الهوى وما جاءت به من سخف حقود، وقبح حسود، وفساد لدودٍ ولد للإنسانية، فاجتمعت كلها في حقيقتها وليس في حقيقتها من شيء، وغابت كلها عن حقيقتها وفي حقيقتها كل شيء.

زر الذهاب إلى الأعلى