حين كانت الذاكرة تُمسك باليد…

بقلم: عبدالامير العجمي
كاتب شاعر عماني
لم تكن الصورة القديمة مجرّد ورقٍ ملوّن؛ بل كانت ذاكرة قابلة للمس، تحمل في نسيجها حرارة اليد التي التقطتها، وعلى أطرافها آثار الزمن الذي عبر فوقها.
كنت تمسكها فتشعر بملمس الحكاية، تحدّق فيها حتى تتسلّل رائحتها إلى قلبك. لم يكن النظر وحده يكفي؛ فاليد كانت شريكة العين في صناعة الذكرى.
في تلك الأيام، لم تكن الصورة تُلتقط على عجل. كانت رحلة تبدأ بشراء الفيلم، وضبط اللقطة، وانتظار التحميض، ثم لحظة اللقاء بالصورة كما لو كنت تستقبل غائبًا طال انتظاره.
وحتى الأخطاء العفوية كانت جزءًا من القصة، تمنحها صدقًا وتزيدها حياة.
وأجمل ما في الصورة القديمة أنّها لم تكن مجرد ملامح مجمّدة، بل نافذة ترى فيها أرواحًا كانت قريبة منك، وتفاصيل صغيرة تربطك بزمانٍ ومكانٍ لا يتكرران: ابتسامة في زقاق قديم، ظلّ شجرة كان يغطي مجلس العائلة، أو رائحة بيتٍ ما زالت تسكنك كلما رأيت صورته.
كانت الصورة تفتح قلبك على الحنين، وتذكّرك بأن اللحظة العابرة يمكن أن تتحوّل إلى كنز لا يصدأ.
أما اليوم، فالصورة تُرى ولا تُمسك. تتدفّق بلا نهاية على الشاشات، لكنها بلا ملمس ولا ثقل. تمرّ على العين كما تمرّ مشاهد يومية عابرة، لا تترك سوى ومضة باردة سرعان ما تُمحى في زحمة الجديد.
تحوّلت الذاكرة إلى رقمٍ في مجلدٍ رقمي، بعدما كانت ورقة في صندوق خشبي، وصارت الذكرى نقرة إصبع بدلًا من انحناءة يد تحرس سرًّا.
إنّ الفرق بين الماضي والحاضر ليس في وضوح التفاصيل أو دقّة الألوان، بل في عمق الصلة بين الحواس والروح.
الصورة القديمة جمعت النظر واللمس معًا، فأبقت الذكرى حيّة. أما الحديثة فاختزلتها في البصر وحده، وتركت الروح جائعة.
ولعل جوهر الأمر كلّه يتلخّص في حكمة واحدة:
ما لا يمكننا لمسه…
يصعب أن نحمله طويلًا في القلب.





