أعـــراس الأمـــوات!!

بقلـــم د. إسحاق بن أحمد البلوشي
إن طرائق الناس وأفكارهم وأساليب حياتهم في هذا العالم؛ أقضت المضاجع وأنزلت الهم في القلوب، وما الهم إلا نذير شؤم وشر، ما أن يتمكن من القلب يتحول إلى العقل، فيحدث ما يفسد الجسم ويرهقه، ويسعى في إشاعة الضرر فيه وما يحمل بين جنبيه من تفاصيل الحكمة والإيمان، ومن تقاسيم الخلق ومحاسن الإنسان، وما إذ كنت كذلك وكنت أتفكر في ذلك، طرق طارق الباب؛ فانتبه القلب واستيقظ العقل لاستقبال الخبر، وما هو إلا خبر موت قريب لأحد الأصدقاء.
فبادرت الاتصال بصاحبي معزيًا وقلت له: (لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار ولا حول ولا قوة الا بالله) ولم أكد أكمل كلماتي بادرني مقاطعًا وقال لي: إن العزاء سيعقد للرجال في قاعة كذا… وسيكون اجتماع النساء في خيمة كذا… ويمنع اصطحاب الأطفال دون السابعة، وكذلك نستقبل الضيوف والمعزين من الداخل ومن الخارج لمدة ثلاثة أيام، مع إمكانية الاستثناء والتمديد في حـالات التدافـع وتزايــد الحضور.
وما هي إلا دقائق فوجدته وقد أعلن في مواقع التواصل الاجتماعي عن الحادثة، ونشر التفاصيل الدقيقة للوفاة مدعمة بالأدلة الطبية والصور، وكذلك أرفق معها السيرة الذاتية للمتوفى، وبعد أيام العزاء وجدت في حساباته تقريرًا منشورًا للجمهور لما جرى في قاعات العزاء من أحاديث وما جرى فيها من صفقات البيع والشراء.
أما إن ما كان من سلوكيات الآباء والأمهات والأجداد والجدَّات الجاهلات في ماضينا؛ هي معانينا وقيمنا الضائعة، فإن سلوكيات المتعلمين والمتعلمات والمثقفين والمثقفات في حاضرنا؛ هي معانينا وقيمنا التائهة الحائرة؛ غير أن من سبقنا مع جهلهم تمسكوا بالفضائل والشمائل الحسنة؛ وأن من عاصرنا مع علمهم تمسكوا بكل ما يتصل بالرذيلة والعبث، فما الذي يجري على حساب الأموات؟ وما الذي يكون على حساب القبور؟ وهل أصبح للأموات أعراسًا؟
إن الذي ساد وانتشر في أوساط المجتمعات وفي حاضرنا اليوم من ابتداع الفعل وسرف الهوى، وسخافة القول وترف المعنى؛ لحري أن يُتوقف عنده ويُعاد النظر فيه، وإني والله إذ أتعجب من فعل هذا الانسان وما يكون بينه وبين الأحياء من عبثه وهزله، ومن سفور فكره وتعري عقله؛ لأتعجب والله أكثر من فساد حريته وحماقة ثورته، وما يكون بينه وبين الأموات في بعض أفعاله التي انتفخت وانتفخت؛ حتى أفرغت في ذهنه كل ساذج وسخيف من المعاني، وأفرزت في خاطره كل قبيح ونَتِنٍ من الأهداف والغايات، لا تتجاوز غايات الأطفال وحدود البهائم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٌ جارية، أو علمٌ ينتفع به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له” فلا يوجد حديث أوضح من هذا، فهو أوضح الواضحات، وهو البيِّن الجلي، الظاهر الصارخ، الذي يعني في جوهره انقطاع عمل الميت عن كل شيء إلا من هذه الثلاث، وانقطاع أجره إلا من هذه الثلاث، وإن كان كذلك يتساءل المقال: لماذا يتهافت الكثيرون اليوم عند وفاة أحد أقاربهم في استغلال الوفاة خارج حدود الموت والفقد، والتعامل معه بعيدًا عن حدود الأجر والثواب؟ مواكبين التطور في التعاطي مع الجثث والنعوش، مواكبين التخلف في التعاطي مع الجنائز والقبور، سأضرب مثلًا هنا لما يجري من ممارسات البشر عند موت الانسان، لا يُعرف خيرها من شرها على الأموات، ومثلًا لما يجري من ممارسات عند إقامة العزاء، لا يُعرف شرها من خيرها على الأحياء.
ما أن يعلن عن الوفاة يتسابق الأب والأخ، وتتسابق الأم والأخت إلى حساباتهم لكتابة عبارات في ظاهرها الألم والحزن، وفي مضمونها الفرح والمرح وتداول الأخبار مع المتابعين والمتابعات، والمعجبين والمعجبات. ثم الإعلان عن إقامة موائد العزاء في القاعات والمساجد والخيام والاستراحات، والبدء في مراسم استقبال أصحاب السعادة والمعالي وأهل الوجاهة والتعالي، واستقبال أولئك الذين ضربوا في الأرض من عامة الناس وقطعوا آلاف الأميال، واستأجروا الحافلات والناقلات وتفرغوا من الوظائف والأعمال؛ للحضور وتقديم ما يسميه بعضهم بالواجب، وما يسميه آخرون بالسنة، وفي المقابل إذا لم يقوموا به اتهموا أنفسهم تارةً بالفضيحة والعيب وسوء الأخلاق، وتارة بالعجز والنقص وقبح الأذواق، وفكر بعضهم في الانتحار أحيانًا؛ لأنه لم يحضر جميع أيام العزاء وخاصة ما يسمى بيوم الختمة!! وينتهي كل هذا بالتفرغ لإجراءات التوديع والمغادرة، وإرسال رسائل الشكر وخطابات الامتنان لجموع المعزين؛ متمنين لهم طيب الإقامة في فترة العزاء، مـتأسفين عن كثير التقصير وقليله.
وفي الجانب الآخر من التهافت يكون التسابق في الابتداع، فما أن يغسل الميت ويجهز للصلاة عليه، تتسارع الأيادي إلى الجوالات لالتقاط الصور وما يسمى (سيلفي) مع الجثة، مصحوبة بالابتسامات والحركات للاحتفاظ بها في ألبوم الصور والذكريات، وما أشبه صور هؤلاء وذكرياتهم صور الحمار وذكرياته فوحده الحمار من يستطيع أن يتذكر أفعالًا خارقة للذكاء كتلك.
ثم تتعالى الأصوات وتجهر بأذكار وشعارات والجنازة تسير الى مستقرها، وما أن يكون العزاء في يومه الثالث حتى يؤتى بما يسمونه الختمة (ثلاثون جزءا من القرآن)، وتوضع أمام أولئك الأطفال الذين كلفوا عنوةً وجبرًا بقراءتها، فلم يقرؤوها وقلبوا صفحاتها وأعلنوا الانتهاء منها، تحت تصفيق أهل الميت وفرحهم بأنها المنجية لميتهم.
ثم تقدم الدعوة للإمام صاحب الشفاعة في نظرهم، الذي وحده من يستطيع أن يهب الختمة، وأن يذكر ذلك ويصرح به أمام الجميع، فيبدأ مستحضرًا جميع الأدعية مازجًا إياها بشيء من الموشحات والأشعار والقصائد، ثم يقول إننا وهبنا الختمة لروح الميت فلان، وما إذ ينتهي من الدعاء؛ يؤتى بالبخور والعطور للحضور ويعلن بانتهاء فعاليات ومراسم العزاء، برفقة الابتسامات والغمزات وفرح الأهالي والأهازيج بأنهم قد قاموا بالواجب وأكرموا ميتهم وأبدعوا في التنظيم، وقدموا نموذجا يحتذى ويتفاخر به لكن في عالم القبور والأموات.
بعد هذا مباشرة يتم الإعلان وتوزيع بطاقات الدعوة المعنونة والمزينة بالأدعية لحضور الفاتحة في اليوم السابع، والفاتحة في اليوم العاشر، والفاتحة في اليوم الأربعين، وتستمر الفواتح طوال السنين والدهور؛ حيث توزع الفواكه وأنواع المأكولات، وتقام الموائد والموالد باسم ذلك الميت الذي ذهب الى جوار ربه الكريم الرحيم، ويتقاسم هؤلاء سخافات عقولهم وانحراف أهوائهم ورغباتهم وشعوذاتهم، التي لا تكاد تنفك من حياة الحي أو حياة الميت.
وما أن يملأ الأهالي والأقارب والأحباب بطونهم بما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات، يأتي دور الابداع والاختراع في مسائل التركة والميراث، فيكون العبث على حساب الأيتام والرضع، وتكون الحماقة واللامبالاة على حساب الأرامل المفجوعين لفقدهم، فيتسابق العم والخال، ويتسابق القريب والجار، وتنتشر الفتاوى بين العائلة، ويكثر العلم والفقه فجأة في علوم الأرامل والأيتام وأحكام المواريث، فتكون الكارثة، وتتبعها بعد ذلك الكارثة، ثم تتبعها أنواع الكوارث، وتنهال حينها على آل الميت مطالبات القاعات والاستئجار وفواتير التغذية (والبوفيهات)، التي تسدد من حسابات الأرامل وأرصدة اليتامى، ولا ينتقل لأصحاب الحقوق إلا الحزن والألم ولا شيء غير ذلك، فذلك الميراث الذي يستحقون، وتلك التركة التي يورثون، يئن حينها الأطفال والأيتام من قسوة الحبيب، وتئن النساء الأرامل من ظلم القريب، فتكون الوفاة في محنتها ويكون العزاء في شدة محنته.
من الذي أمر بهذا؟ ومن الذي جاء بهذه السلوكيات والممارسات العظيمة؟ ومن الذي أرهق الميت في قبرة بكل هذه الأفعال والأحداث، وأرهق الحي في عيشه بكل هذه الطقوس؟ لماذا كل هذا التعقيد؟ ولماذا كل هذه المظاهر؟ وما الذي يرجونه من هكذا أفعال؟ وهل يقبل هؤلاء بعد موتهم أن تكون لهم من هذه الممارسات والأفعال نصيب؟ ما الذي جرى لعقل الانسان وما الذي جرى لفهم البهائم والحيوان؟ فلم يبق شيئا إلا وأفسدوه، ولم يذروا شيئا إلا وضيعوه، فلم يسلم الحي ولا الميت سلم.
هناك صورتان لهذا الانسان: إحداهما بيد الشيطان والهوى، والأخرى بيد الايمان والتقوى، فتدفع الواحدة أختها، ولا ينبغي أن تحتوي الأولى الثانية، وصورة الهوى إنما هي فلسفة الابتداع والانحراف، وعبودية الشهوات والرغبات، التي كانت مخاضا كبيرا لأجيال من المبتدعة، ولأجيال منحرفة وقعت في شرك التقليد والتيه، ومسارات الغي والضلال، التي نراها اليوم. وصورة التقوى إنما هي حكمة الاتباع لوحي السماء، وكمال الالتزام بمنهج السلف والخلفاء، التي أخرجت الأمة من التخلف إلى التحضر، ومن الجهل إلى العلم التي لا نراها اليوم، فأي صورة ترضاها لنفسك أيها الانسان؟؟





