عمان بين شموخ المعرفة وصناع المستقبل

د/ آمال بوحرب
كاتبة تونسية
التعليم حجر الزاوية للنهضة الحضارية
يُعدّ التعليم من المكونات الأساسية لجميع الثقافات البشرية وعنصراً رئيسياً من عناصر التمكين الحضاري، فهو قيمة إنسانية ومنطلق لبناء الأفراد، ويتيح نموًا متوازنًا للجنس البشري وتفكيرًا راشدًا نحو أفضل خيارات الحياة في الحاضر والمستقبل. ولعلّ أول ما نزل من الأمر الإلهي بكلمة {اقرأ} في القرآن الكريم يشير إلى عظمة التعليم ودوره المحوري في تأسيس المعرفة.
اهتمام سلطنة عمان بالتعليم يتجلّى عبر تاريخها الحضاري ومنجزات النهضة المعاصرة، ويؤكده النظام الأساسي للدولة الذي جعل التعليم ركيزة أساسية لتقدم المجتمع وحقًا مكفولاً لكل أبنائه. وقد عملت الحكومة منذ بداية عهد النهضة المباركة على نشر مظلة التعليم في كل ربوع السلطنة، مع تطوير أنظمته ومناهجه وتجويد مخرجاته، مؤمنةً بأن التعليم هو أساس التطوّر والتنمية وإعداد الموارد البشرية المؤهلة للإسهام في عجلة التنمية.
البدايات: المدرسة السلطانية الأولى والمعرفة المبكرة
شهدت عمان بداية التعليم النظامي الحديث مع المدرسة السلطانية الأولى في مسقط عام 1930م، في عهد السلطان السيد تيمور بن فيصل، وأدارها إسماعيل بن خليل الرصاصي القادم من فلسطين. وركزت هذه المدرسة على التعليم الأساسي في مرحلتي ما قبل الابتدائي والابتدائي، مع مادة القرآن والتربية الإسلامية واللغة العربية والرياضيات والعلوم، إضافة إلى أنشطة لاصفية كالتمثيل والرياضة والرحلات، والاهتمام بخط العرب.
قبل النهضة، كانت المدارس في عمان متواضعة مثل بوذينة والريجي، وتمثّل الكتاتيب وحلقات المساجد المصدر الرئيسي للمعرفة، حيث تعلّم الأطفال القراءة والكتابة وفهم العلوم الأساسية رغم بساطة الأدوات وقسوة الظروف. هذه البدايات شكلت الأساس الذي ارتكزت عليه النهضة التعليمية لاحقًا.
النهضة التعليمية: عهد المغفور له السلطان قابوس بن سعيد
مع بزوغ عصر النهضة عام 1970 تحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- تحوّل التعليم إلى عقيدة وطنية ينمو فيها العطاء ويستمر. أُنشئت المدارس الحديثة في مختلف محافظات السلطنة لتصبح منابر للعلم والمعرفة، وصار كل معلم يحمل رسالة حضارية ويساهم في صناعة مستقبل الأجيال.
لم يقتصر التطور على البنية التحتية فحسب، بل شمل المناهج وأساليب التعليم أيضًا، حيث انتقلت من الحفظ والتلقين إلى التفكير النقدي والبحث العلمي والابتكار. الجامعات مثل جامعة السلطان قابوس أصبحت منارات للعلم تحتضن بحوث الطلبة وتربطهم بالعالم، لتصبح المعرفة عميقة ومتجددة.
التطور المعاصر: الجودة، البحث العلمي والتقنيات الحديثة
في إطار التطورات الحديثة، أولت الدولة أهمية كبيرة لتطوير منظومة التعليم عبر مجلس التعليم الذي أُنشئ عام 2012م، ليصبح مظلة شاملة لجميع المؤسسات التعليمية، ويقود رسم السياسات وتوجيه خطط التعليم. وضمن هذا الإطار تم تحديث المناهج وتعزيز البيئة الرقمية وتطوير المدارس والمختبرات ودعم البحث العلمي والابتكار بما يضمن قدرة الطلبة على التعامل مع متغيرات العصر.
كما حرصت المديرية التعليمية ممثلة بمركز العلوم والتكنولوجيا على مواكبة تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي من خلال تقديم البرامج التوعوية والتدريبية، بالإضافة إلى برامج الذكاء الاصطناعي والروبوت والمبتكر الصغير، وبرامج الطاقة المتجددة، والنانو، والتعلم التفاعلي، والأمن السيبراني، والنمذجة، والعلوم الجغرافية للفئات المستهدفة من الطلبة والمعلمين والعاملين في المدارس والمؤسسات التعليمية وغير التعليمية، وكذلك المجتمع المحلي في مختبرات وقاعات المركز البالغ عددها 12.
ولقد نوّه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله – في خطابه الأول عام 2020م إلى أن المغفور له جلالة السلطان قابوس أقام هياكل ثابتة للتعليم بجميع مستوياته وتخصصاته، مؤكداً على مواصلة الاهتمام بالتعليم باعتباره أولوية وطنية، مع توفير البيئة الداعمة للبحث العلمي والابتكار لتعزيز قدرة أبناء السلطنة على المشاركة الفاعلة في بناء مستقبل الوطن.
التعليم عقيدة وطنية وروح العطاء
أثر التعليم في عمان لم يقتصر على المدارس والمناهج بل امتد ليشمل القيم والمبادئ، فساهمت الجهود التربوية في بناء مجتمع يقدّر العلم والعطاء ويزرع حب الاستطلاع والمعرفة فكل معلم وكل باحث وكل طالب يحمل شغف التعلم هو جزء من نسيج هذا الوطن، وكأنهم جميعًا نخيل ممتد الجذور يثمر في كل زمان ومكان.
اليوم، ومع تقدم التعليم الرقمي ومراكز البحوث والمدارس الحديثة، أصبح التعليم في عمان أكثر من مجرد مهنة؛ أصبح عقيدة وطنية وروحًا من روح العطاء. كل خطوة وكل فكرة وكل درس يُقدّم هو امتداد لمسيرة العطاء التي بدأها رواد التعليم ويستمر في إشعالها كل معلم شغوف وكل طالب متطلّع للمستقبل.
تكريم صناع المعرفة في عمان
في ختام هذا المقال أرفع تحية إجلال وامتنان لجميع رجال التعليم في عمان الذين شكلوا بجهودهم جيلًا من الأمل والمعرفة، وأكدوا أن التعليم ليس مجرد مهنة بل رسالة سامية وعطاء مستمر. دامت عمان مشرقـة بكل من أسهم فيها من رجال التعليم وصناع المستقبل حاملين شعلة المعرفة والعطاء، ليبقى الوطن شامخًا ومزدهرًا في جميع ميادين الحياة، ولتستمر مسيرة النهضة التعليمية في إشراقها الدائم عبر الأجيال القادمة.





