الاعتداء على قطر وعصر البلطجة.

بقلم: زاهر بن حارث المحروقي.
يبدو أنّ الوطن العربي أصبح ساحة مستباحة من قبل الكيان الإسرائيلي، لا لقوته وإنما لضعف الدول العربية. وما حصل في الدوحة يوم الثلاثاء الماضي، من قصف إسرائيلي استهدف اجتماع الوفد المفاوض من حركة حماس، ليس إلا سلسلة من الاستباحات الكثيرة التي حدثت للدول العربية والإسلامية، ولن يكون الأخير إن لم يكن البداية الحقيقية لما هو أكبر. يتضح ذلك من خلال تهديد بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي قطر والدول التي تستضيف قادة من حركة حماس، بأنّ عليها ترحيلهم، وإلا فإنّ إسرائيل هي التي ستنفذ هذه المهمة.
إنّ تهديد نتنياهو الدول العربية، هو إعلان صريح عن سياسة أمنية اعتدائية عابرة للحدود، تمنح إسرائيل بموجبها الحقَّ لنفسها في ارتكاب اعتداءات عسكرية داخل أراضي دول عربية، دون اعتبار للسيادة أو القانون الدولي، الذي لا ينطبق على إسرائيل، ما دامت تتصرف بضوء أخضر أمريكي، ممّا جعلها ترى نفسها مخوّلة للاعتداء على أيِّ دولة عربية، حتى تلك التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية أو أمنية مع الغرب، ومثال الاعتداء على قطر خير دليل.
ما الذي أوصل الكيان الإسرائيلي إلى هذه المرحلة المتقدمة من غرور القوة؟!، أن يتصرف في الأجواء العربية بكلِّ أريحية، دون أن يرى في العرب سوى أهداف منفردة؟ الإجابة تحتاج إلى مقالات كثيرة، ويمكن أن نعيد السبب إلى حالة التشرذم والضعف العربي، والانقسامات بين الدول المطبعة وغير المطبعة، ممّا أدى إلى وجود حالة من غياب الهدف المشترك، الذي يسمح برد جماعي على هذا الصلف؛ الأمر الذي جعل من الاتفاقية العربية للدفاع المشترك مجرد حبر على ورق، ومثار تندر وسخرية الشعوب.
الرد العربي الرسمي -وكما هي عادته- كان باهتًا ولم يتجاوز بيانات إنشائية تعبّر عن «قلقها» و«إدانتها» و«استنكارها» بـ«أشد العبارات»، بينما غابت إجراءات الرد الفعلية المفترضة، التي تنتظرها الشعوب. فلم يتطرق أحدٌ إلى قطع العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية مع إسرائيل، وهذا منح نتنياهو الجرأة والقدرة على الاعتداء شرقًا وغربًا دون أيِّ خوف ووجل؛ فهشاشة النظام العربي الرسمي جعلت بعض الدول العربية سدًا منيعًا لحماية إسرائيل، ولنا فيما حدث أثناء الرد الإيراني على إسرائيل مَثلٌ وعبرة.
عندما تستبيح إسرائيل الوطن العربي، وتمرُّ طائراتُها فوق الأجواء العربية لتضرب دولًا عربية وإسلامية، دون أن يتصدى لها أحد، فهذا يمثل ذروة الذل والضعف والهوان، وقد أورث هذا الضعف عالمنا العربي غيابًا فعليًّا عن معادلة القوة في المنطقة، ولماذا؟! لأنّ الدول العربية تعيش حالة الانقسام والتشرذم كما أشرتُ سابقًا، والأكثر من ذلك التبعية، وكلها عوامل جعلت من العرب فريسة سهلة، لا تملك أدوات الردع، ولا حتى الجرأة على التلويح بالرد، وأقصى ما تستطيع فعله هو إصدار بيانات تنديد، وعقد قمم تُصرف عليها أموالٌ طائلة، ويحضر كلُّ زعيم ليلقي كلمة طويلة مملة، بها من الأخطاء النحوية واللفظية ما يشيب له الولدان، والأدهى والأمر من ذلك أنّ إسرائيل تكون حاضرة في تلك القمم عبر وكلائها المعلنين والسريين.
لا أظن أحدًا من العرب يختلف على كراهية بنيامين نتنياهو، واعتباره مجرم حرب وكذابًا كبيرًا، لكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف أنه حقق للكيان الصهيوني ما لم يحققه أحدٌ من سياسيي إسرائيل قبله، فها هو يبني الآن «إسرائيل الكبرى» في الواقع على الأرض، ويعلن ذلك بكلِّ عنجهية، ولا يبالي بالبيانات العربية الكثيرة التي تندد به، لأنه يعلم علم اليقين أنها لا تساوي قيمة الحبر الذي وُقِّعت به، ولا قيمة تلك الأوراق، ويحق له أن يتفاخر أمام الإسرائيليين اليوم بأنه حقق لهم «إنجازات» كبيرة، ما كانوا يحلمون بها، من تلك «الإنجازات»، تدميره حماس، وتقزيمه حزب الله، وإخراج سوريا من المعادلة، وحربه على إيران، وتهديداته الكثيرة لحلفائه قبل أعدائه، والأكثر من ذلك تسابُق بعض الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل، رغم كلِّ الاعتداءات. لذا فإنّ ما قاله نتنياهو بعد قصف قطر هو إعلان عن مرحلة جديدة، تُعامل فيها الدول العربية كمساحات أمنية رخوة، يمكن اختراقها متى شاءت إسرائيل، تحت ذريعة «ملاحقة الإرهاب». وما الذي يمنع إسرائيل أن تقصف قناة الجزيرة مثلا بحجة أنها تستضيف «الإرهابيين»، رغم أنّ هذه القناة هي التي أوصلت الإسرائيليين إلى بيوتنا؟!
بالأمس كانت سوريا ولبنان ثم إيران واليمن واليوم قطر، فلا أحد محصّن ولا أحد محمي بمنظومة عربية موحدة، تحت مسمى الأمن العربي المشترك، أو اتفاقية الدفاع المشرك، أو وطن عربي موحد. وكما قال لي أحد الأصدقاء، «إنّ هذا النمط من الاستهداف يُشبه العدوان بالتقسيط، حيث تُختبر كلُّ دولة على حدة، ويُقاس رد فعلها، ثم تُستهدف التالية». وأنا في تصوري أنّ كلام صديقي هذا هو الحقيقة، فإسرائيل لا ترى في العرب قوة جماعية، بل دويلات منفردة يمكن الآن «تأديبها» دون أن تخشى أي عواقب، فلا البيانات تخيفها ولا القمم كذلك.
قد يسأل أحدهم: والحل؟! الإجابة ليست لديّ ولا لدى الشعوب، وإنما عند القيادات العربية، فما لم يُعد بناء مشروع عربي قائم على السيادة والردع، فإنّ الدور قادم على الكل لا محالة، والكيانُ الصهيوني أصلًا لا يفرّق بين دولة تطبّع وأخرى تدين، بل يرى الجميع أهدافًا محتملة ما داموا عاجزين عن الرد. وما لم تُستبدل بيانات التنديد باستراتيجيات ردع، فإنّ إسرائيل ستواصل فرض شروطها، وستواصل اختبار حدود الصمت العربي، دولةً بعد أخرى، ولكن في المحصلة النهائية إنّ مثل هذه الاعتداءات عندما تكثر ويظهر العجز العربي الرسمي عن الرد فإنّ ذلك يسحب ثقة المواطنين العرب من النظام الرسمي أكثر فأكثر.
وهناك سؤالٌ مهمٌ يطرحه العامة قبل الخاصة: ما فائدة القواعد الأمريكية في دول المنطقة، وما هو دورها؟ ثم أين ذهبت التريليونات التي دُفعت للولايات المتحدة لحماية هذه الدول، كما يعلن الرئيس ترامب في كلِّ مناسبة؟! إنّ الاعتداء الإسرائيلي على قطر قدَّم دروسًا مجانية، فهل من مستفيد ومعتبر؟!.
***
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن السياسي الإقليمي





