إشبيلية.. وحكايات من الماضي الحاضر

كتب/ سعيد بن مسعود المعشني
حين تسير في أزقة إشبيلية، تشعر أن كل حجر فيها يروي حكاية ضائعة من كتاب الأندلس الطويل. هذه المدينة التي كانت يوماً عاصمة للفن والفقه والعلم، أضحت اليوم متحفاً مفتوحاً يروي قصة حضارة أكلها أبناؤها قبل أن تلتهمها جيوش الغزاة. على جدران قصورها الموشاة بالفسيفساء العربية تقرأ آيات من الجمال والحكمة، وتسمع في صمتها الطويل أنين ملوكٍ تنازعوا على التيجان وتقاتلوا على الأطلال حتى ضاعت التيجان وضاعت الأطلال.
في إشبيلية، لا تتجول فقط في المكان، بل في الزمن. فكل زاوية فيها تستحضر ملوك الطوائف الذين مزّقوا رايات الأندلس بأيديهم، وسلّموا رقابهم طوعاً لأعدائهم، تحت شعار الخوف من الجار قبل الخوف من العدو المترصد. وها نحن بعد ألف عام نعيد ذات المشهد، بملابس مختلفة ولهجات متعددة، لكن بالعقلية ذاتها والنتيجة لن تختلف بكل تأكيد.
كانت الأندلس تملك كل أسباب الحضارة؛ العلم، والتجارة، والثراء، والتنوع، لكن ما أسقطها لم يكن ضعف السيوف وهوانها بل ضعف النفوس وتفرقها.
تآمر الملوك على بعضهم البعض، فاستعان أحدهم بالفرنجة على جاره العربي المسلم، وأرسل آخر هديةً وسفارةً للعدو ليضمن بقاء عرشه ولو يوماً آخر. واليوم، كم يشبه الأمس حاضرنا العربي البائس؛ حيث تُدار الحروب بالوكالة، وتُباع القضايا بالمزاد، ويستعين الأخ بأعداء أمته ضد أخيه، ثم يتحدث الإعلام عن الزعيم الملهم والقائد الذي لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه.
عندما تتجول بين أزقة إشبيلية تتحدث إليك الجدران عن ما جرى ويجري نفس الرواية وإن أختلف الشخوص وتغيرت المسميات ؛ الخوف من الوحدة، والتعلق بالكرسي، وانعدام الثقة في الجار القريب. التاريخ لا يعيد نفسه عبثاً، بل لأننا لم نتعلم الدرس الأول: أن الأمم لا تنهار حين تغزوها الجيوش الأجنبية، بل حين ينخرها الشقاق والاختلاف من الداخل.
وأنا أتمشى بين قصر المورّق وبرج الذهب وأسمع خرير الماء في حدائقها، أحسست أن أرواح ملوك الطوائف لم تغادرنا حقا، فهم يراقبون ما آل إليه أحفادهم ويضحكون حين يرون كيف صرنا نغني لانتصارات وهمية، ونرفع رايات الولاء والعرفان في حين أننا نكرر نفس اخطائهم .
تظل إشبيلية شاهدة على أن الحضارات لا تموت بالصدفة، بل تُقتل بخيانة أصحابها. وأن ما نسميه “تاريخاً” ليس إلا مرآةً لحاضرٍ نعيش نسخه المكرّرة كل يوم، بنفس السيناريو وبنفس الأبطال، وإن تبدّلت الأسماء والرايات.
فهل نتعلم من الأندلس… أم ننتظر سقوطاً آخر، نكتبه نحن بأيدينا؟





