قراءة نقدية: كتاب “الإعلام والحرب في بيئة أمنية متغيرة” للكاتب العماني الدكتور عبدالناصر بن أحمد العبري
مسقط – الواحة
خاص
الحلقة الاولى
صدر كتاب “الإعلام والحرب في بيئة أمنية متغيرة: توازنات استراتيجية وفاعلون جدد” للدكتور عبد الناصر العبري في عام 2021 عن دار رياض الريس للنشر والكتب في لبنان. يقدم الكتاب رؤية شاملة حول تطور وسائل الإعلام وتأثيره في بيئة الصراعات الحديثة، ويتناول العلاقة المعقدة بين الإعلام والعمليات العسكرية في ضوء المتغيرات الأمنية الدولية وما إذا كانت هذه العلاقة قد اتسمت بالتعاون أم التصادم في ظل أنظمة مختلفة، وكيف يمكن استقراء مستقبل هذه العلاقة في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية.
ويعد هذا الكتاب هو الأول من نوعه على مستوى الإقليم، على حد تعبير الكاتب الذي يجمع ما بين تخصصات علمية متعددة: العلاقات الدولية، دراسات الحرب، الدراسات الأمنية والدفاعية، علم المعلومات، ودراسات الاعلام والثقافة. ويركز الكتاب على جدلية العلاقة بين الصحفي ومصادر المعلومات في مناطق النزاع، والتحديات التي يواجهها المراسلون الحربيون في الوصول الى مناطق عمليات قتالية ونقل الصورة بتجرد من الواقع. ويرصد الكتاب آراء الخبراء من الصحفيين والعسكريين حول أخلاقيات مهنة الصحافة والعمليات الإعلامية العسكرية ما بين الالتزام بالمواثيق الإعلامية في الإبلاغ عن الحقيقة وبين سياسات النشر التي تقيد حركة الصحافي وتحد من نشر البيانات التي قد تعرض العمليات العسكرية للخطر اثناء العمليات القتالية الفعلية. وقد تسبب ما سُمّي بـنموذج “الحرب الجديدة” في إحداث خلل في منظومة القيادة والسيطرة المعلوماتية، ما جعل القيادات العسكرية تمارس ضغوطا لدمج وسائل الإعلام التي أضحت أكثر تعقيداً في جهودها الحربية، لا سيما على المستوى التكتيكي.
نستعرض في هذا الجزء جانبا من أدبيات الحرب التي تناولها الكاتب بالتفصيل بدءا من الحروب التقليدية الى أنماط الحروب الحديثة وكيف تطورت تلك الحروب من حيث أهدافها وأشكالها، وكيف أثرت على بنية العقائد القتالية التي يتم تبنيها من قبل الدول لضمان أمنها وأمن مصالحها داخل وخارج الدولة. وبلا شك فإن هذا التطور أثر أيضا على طرق نقل المعلومات من ساحات المعارك وعلى مصداقية الاعلام التقليدي منه والرقمي (السوشيال ميديا) في نقل الخبر بتجرد وبدون تحيز.
فلسفة “الحرب التقليدية“
لفهم فلسفة الحرب التقليدية، تناول الكتاب دور المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية اباعتبارها على النقيض من المدرسة الليبرالية لتي ركزت على معيار القوة، الأمن، وديناميكيات الفوضى في تحليل الوحدات الفاعلة في النظام الدولي. تنبع جذور هذا الفكر من أفكار مفكرين ك”سن زو”، و”ثيوسيديدس” ومرورًا بـ”ميكيافيلي”، و”هوبز”، وصولًا إلى “هيجل” و”ماركس”، الذين تركوا بصمة واضحة في فهم العلاقة بين القوة، السياسة، والمعرفة:
- سن زو (Sun Tzu): قدم الفيلسوف الصيني في كتابه “فن الحرب“ رؤية استراتيجية للحرب باعتبارها ضرورة حتمية، لكنه شدد على تحقيق النصر بأقل الخسائر، مستعرضًا أهمية الخداع والذكاء في الحروب دون اللجوء إلى القتال المباشر. أفكاره تجاوزت الجانب العسكري لتشمل الصراعات السياسية، الأزمات الاقتصادية، والمنافسة الإعلامية، مما جعلها مصدر إلهام للقادة عبر العصور.
- ثيوسيديدس: تناول المؤرخ الإغريقي الحرب البيلوبونيزية بين أثينا وأسبارطة كمثال على سباق التسلح وتأثير اختلال ميزان القوى. ركز على القوة العسكرية كعامل حاسم، ورأى أن خوف الدول من تصاعد قوة منافسيها يؤدي إلى صراعات طويلة الأمد. أفكاره شكلت أساس تحليل النظرية الواقعية لمفهوم الفوضوية في النظام الدولي.
- نيكولو ميكيافيلي (Niccolò Machiavelli) : اعتبر ميكيافيلي أن السياسة منفصلة عن الأخلاق، مؤكدًا أن الغاية تبرر الوسيلة. في كتابه “الأمير“, قدم نصائح للحكام حول اكتساب القوة والحفاظ عليها من خلال التحالفات أو الحرب. دعا إلى تعزيز القوات الوطنية بدلاً من الاعتماد على المرتزقة، وشدد على العلاقة بين الديمقراطية والجيش عبر التجنيد الإجباري.
- توماس هوبز (Thomas Hobbes): في كتابه “Leviathan”, تصور هوبز أن الطبيعة البشرية أنانية، وأن العلاقات الدولية تعكس هذه الصفات. دعا إلى سلطة مركزية محلية لضمان الأمن، لكنه اعتبر أن النظام الدولي يفتقر إلى هذه السلطة، مما يخلق بيئة من الخوف وعدم الثقة بين الدول. هذا التفسير مستمد من التجارب التاريخية كحرب الثلاثين عامًا التي شكلت معاهدات ويستفاليا نهايتها مما آذن بإنشاء الدولة القومية الحديثة التي نعرف أشكالها الآن.
- جورج هيجل (Georg Hegel): ركز هيجل على دور العقل في العلاقات الدولية، معتبراً الدولة أسمى من الفرد. رأى أن تحقيق السيادة الوطنية يتطلب قدرة الدولة على الدفاع عن نفسها والانتصار في الحروب. على عكس ميكيافيلي وهوبز، أكد هيجل على التضحية الفردية لصالح بقاء الدولة.
- كارل ماركس (Karl Marx): نظر ماركس إلى المجتمع المدني كمجال للصراع الطبقي الناتج عن العلاقات المادية والإنتاج. وتوسع تلميذه أنطونيو غرامشي في هذا المفهوم، مشيرًا إلى دور المؤسسات الثقافية والإعلامية كوسيط بين الاقتصاد والسياسة، ومؤكداً على أهمية “القوة الناعمة” في بناء الدولة.
- كارل فون كلاوزفيتز (Carl von Clausewitz) وأهمية كتابه “عن الحرب“: لا يمكن الحديث عن فلسفة الحرب دون الإشارة إلى المفكر البروسي كلاوزفيتز وكتابه “عن الحرب“. بدأ كلاوزفيتز الكتاب في شبابه واستكمله خلال حياته. يُعتبر هذا الكتاب مرجعًا رئيسيًا في كليات الحرب والقيادة، حيث يقدم رؤية عميقة حول مفهوم الحرب كأداة سياسية. شدد كلاوزفيتز على أن الحرب ليست مجرد صراع عسكري، بل وسيلة لتحقيق أهداف سياسية للدولة.
- أنطوان هنري جوميني Antoine-Henri Jomini: ركز على استراتيجية العمليات وإدارة الحملات، مقترحًا أن النصر يتحقق من خلال احتلال أراضي العدو وضرب أهدافه الحاسمة.
- ألفريد ثاير ماهان Alfred Thayer Mahan طور الاستراتيجية البحرية، مؤكدًا أهمية السيطرة على البحار لتحقيق الهيمنة الاقتصادية والعسكرية.
- هنري ليدل هارت Henry Liddell Hart: ركز على الدفاع المرن والدفاع الاستراتيجي، وأشار إلى أهمية الحرب الاقتصادية والحصار بدل المواجهة المباشرة.
التغير في أنماط الصراع المسلح
ظهر مفهوم “الحرب الجديدة” مع نهاية الحرب الباردة في أواخر التسعينات ومع تفكك الإتحاد السوفيتي لوصف تغيرات النزاعات المسلحة، مدفوعاً بظاهرة العولمة، والثورة في الشؤون العسكرية، وقوة المعلومات. تتميز الحروب الجديدة باستخدام التكنولوجيا، الوسائط الإعلامية، والعوالم الافتراضية التي تتجاوز القيود التقليدية لنظريات العلاقات الدولية. كذلك، تغيرت البيئة الاستراتيجية الدولية مع تطور مفهوم السيادة وتأثر أدوار الدول الفاعلة، خصوصاً في إدارة العمليات الإعلامية في الأزمات.
أثرت ظواهر مثل العولمة، حرية تحركات رؤوس الأموال، الإرهاب الدولي، وانتشار قضايا حقوق الإنسان والتغير المناخي على تراجع مفهوم السيادة التقليدية. كما ظهرت قوى جديدة في العلاقات الدولية مثل التحالفات الاقتصادية، الشركات متعددة الجنسيات، المنظمات غير الحكومية، والإعلام الرقمي، مما أعاد تشكيل النظام الدولي الذي بدأ يسير نحو نظام القطب الواحد.
النظام الدولي شهد مراحل تطور مختلفة، من نظام متعدد الأقطاب في القرن التاسع عشر إلى نظام ثنائي القطب في الحرب الباردة، وأخيراً إلى نظام أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة في ظل صعود قوى منافسة كالصين وروسيا. هذا التحول عزز فكرة الحروب الجديدة، التي تتداخل فيها أدوات اقتصادية وإعلامية واجتماعية وافتراضية، وتتميز بتغير طبيعة التهديدات وتداخل أدوار العناصر الفاعلة.
منظرو “الحروب الجديدة”، يرون أن الحدود بين الحرب والسلم أصبحت غير واضحة. تشمل أدوات الصراع الاقتصاد، الإعلام، التكنولوجيا، والصراعات الفكرية والعقائدية وهذا جعل ل من البيئة الاستراتيجية للحروب في تغير مستمر بفعل التطورات في تكنولوجيا التسليح، الذكاء الاصطناعي، شبكات الاتصالات، ونظم الدفاع الإلكتروني.
يشير هذا التحول إلى الحاجة لفهم الحروب الجديدة ضمن سياقها التاريخي والفكري، عبر تحليل نماذج الحروب التقليدية ومقارنتها بالصراعات الحديثة كالحروب الهجينة وحروب الجيل الرابع. النظريات التقليدية مثل الواقعية والليبرالية تستمر في تحليل العلاقات الدولية، ولكنها تواجه تحديات في تفسير الأنماط الجديدة من الصراعات المسلحة.
العقائد العسكرية
ركز الكتاب على العقائد العسكرية التي شهدت تحولات عميقة مع تطور التكنولوجيا وتعقيد المشهد الجيوسياسي. العقيدة العسكرية، كما أشار المؤلف بالاستناد إلى تعريف بيرت تشابمان، هي إطار المبادئ والقيم التي توجه بناء القوات المسلحة واستخدامها لتحقيق المصالح الوطنية في السلم والحرب.
قدم الكتاب تصنيفاً للعقائد العسكرية إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
- العقيدة الأساسية: وهي تضع الإطار الاستراتيجي للقوات المسلحة وتشمل تحديد الأدوار والمهام. تتسم بثباتها النسبي مقارنة بالتغيرات السياسية والتكنولوجية، لأنها تستند إلى مبادئ عامة تضمن استمرارية الأداء العسكري.
- العقيدة البيئية: تتعامل مع العلاقة بين القيادة العسكرية والقيادة السياسية، وتحدد طبيعة العمليات ومسارحها. تتأثر هذه العقيدة بعوامل خارجية كالمتغيرات السياسية والجغرافية.
- العقيدة التنظيمية: تركز على التكتيكات والتقنيات المستخدمة على المستويات التعبوية. تتميز بمرونة عالية لمواكبة التغيرات في ميدان القتال، خصوصاً مع ظهور حروب غير تقليدية كالحروب السيبرانية.
تتأثر العقيدة العسكرية بعوامل متنوعة أبرزها:
- النظام السياسي للدولة: العقيدة ترتبط بالأيديولوجيات الحاكمة.
- البيئة الجيو-استراتيجية: يحدد الموقع الجغرافي للدولة طبيعة التهديدات الأمنية.
- التكنولوجيا: تسهم أنظمة التسليح المتطورة في تغيير قواعد الاشتباك.
- تنوع مصادر التهديد: تشمل الجهات الحكومية وغير الحكومية.
تحولات العقيدة العسكرية في الدول العظمى
قدم الكاتب نماذج لعدد من العقائد العسكرية في بعض الدول الكبرى والاحلاف التي أثرت في تطور وسائل الأعلام ودورها في صنع القرار السياسي، من بينها:
- الولايات المتحدة الأمريكية: أعادت الولايات المتحدة تعريف عقيدتها العسكرية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 حيث ركزت على الضربات الاستباقية لمواجهة “الدول المارقة” والتنظيمات الإرهابية، وأدخلت مفاهيم الحرب الرقمية لمواجهة التحديات في الفضاء السيبراني.
- حلف الناتو: وسع حلف الناتو من نطاق عملياته خارج القارة الأوروبية، معززاً التعاون بين الدول الأعضاء والمنظمات غير الحكومية. أصبحت المعلومات عاملاً أساسياً في الصراعات، مما أدى إلى دمج الحرب السيبرانية في استراتيجياته.
- المملكة المتحدة: طورت بريطانيا عقائدها لمواجهة التمرد، مع تركيز خاص على المشاركة الدولية في الصراعات مثل العراق وأفغانستان. وبرز دور الإعلام البريطاني في تشكيل نظرة الجمهور للسياسات الخارجية والعسكرية، مما أثر بشكل مباشر في دعم العمليات العسكرية واستراتيجياته.
دور التكنولوجيا في العقيدة العسكرية
ناقش الكتاب تأثير التكنولوجيا في تطوير العقيدة العسكرية، حيث أتاحت أنظمة المعلومات إدارة العمليات بكفاءة، وخفضت الخسائر البشرية من خلال استخدام التكتيكات الرقمية. كما ساعدت التكنولوجيا في ظهور أنماط جديدة من الحروب، مثل الحروب الهجينة التي تدمج بين الأساليب التقليدية وغير التقليدية.
الحروب الجديدة والهجينة: تحولت الاستراتيجيات العسكرية لمواجهة الحروب الهجينة، التي تشمل النزاعات مع التنظيمات غير الحكومية والدول الضعيفة. ومن أبرز الأمثلة:
- الأزمة الأوكرانية: التي شهدت تدخلاً روسياً يجمع بين القوة العسكرية التقليدية والأساليب السيبرانية.
- الحرب على العراق: حيث تحول الصراع في العراق بعد سقوط النظام العراقي الى حروب حركات تمرد وسمح بدخول قوات غير نظامية سيطرت على أجزاء واسعة من الدولة بهدف إقامة الخلافة.
- الصراع في اليمن: حيث تستخدم الأطراف المتصارعة حروب الوكالة بدعم خارجي.
- الصراع في سوريا: حيث شهدت سوريا صراعات طائفية وحروبا بالوكالة عنيفة الى أن تغير المشهد السوري في نهاية عام 2024.
- الصراع في غزة: حيث احتدم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في غزة في مواجهات متعددة الأمر الذي قاد الى انطلاقة عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.
الخاتمة
اختتم الكاتب هذا الجزء بتأكيد أن لفترة الانتقال في النظام العالمي منذ نهاية الحرب الباردة تأثير كبير على تطور الاستراتيجيات العسكرية، وطرق التفكير في التعامل مع النزاعات والحروب المعاصرة. ويعد نموذج الحرب الجديدة ملائما لوصف ظاهرة التغيير في أساليب القتال التي اعتمدت على المزج بين الحرب النظامية، والهجينة التي توجه في العادة ضد جيوش غير نظامية. ولأن سلاح المعلومات يعدُّ مصدرًا رئيسيًا في حروب الجيل الرابع، فإن من يتمكن من تحقيق السيطرة على الفضاء المعلوماتي، فإنه لا شك قادر على تحقيق القيادة، والسيطرة على باقي القطاعات الأخرى.
وأكد الكاتب أن العقيدة العسكرية ليست ثابتة، بل تتطور استجابة للتحولات السياسية والتكنولوجية. ومع تعقيد البيئة الأمنية الدولية، تظل مرونة العقيدة العسكرية أمراً ضرورياً لضمان الأمن القومي وتحقيق المصالح الوطنية.