قراءة نقدية: كتاب “الإعلام والحرب في بيئة أمنية متغيرة” للكاتب العماني الدكتور عبدالناصر بن أحمد العبري

الجزء الثاني

صناعة الإعلام في الحروب
تطرق كتاب” الإعلام والحرب في بيئة امنية متغيرة: توازنات استراتيجية وفاعلون جدد” للكاتب الدكتور عبدالناصر العبري في الفصل الأول على أهمية وسائل الإعلام كأحد أدوات القوة الوطنية National Power Instruments للدولة التي يتم توظيفها لتحقيق أهدافها السياسية داخليًا وخارجيًا، ويلعب دورًا محوريًا في إدارة الأزمات السياسية، العسكرية، الطبيعية، الاقتصادية، الصحية، والاجتماعية. وأشار إلى أن الإعلام يسهم في تشكيل صورة ذهنية عن الحروب والأزمات عبر تقديم المعلومات للجمهور بما يتماشى مع مصالح الحكومات والمؤسسات الإعلامية، خاصة مع تطور تكنولوجيا الاتصال التي جعلت العالم أشبه بقرية صغيرة.
واستعرض الكاتب أهمية وسائل الإعلام في أوقات الحروب من خلال التعرض للموضوعات التالية::

  1. تغطية الصراعات: الإعلام يعكس توجهات الحكومات والمؤسسات الدولية، ويوظف التكنولوجيا لتوجيه الرأي العام وحشد القوات، والتأثير على الأصدقاء والحلفاء والمجتمع الدولي، وكسب الرأي العالمي.
  2. تشكيل الصور الذهنية: يُستخدم وسائل الإعلام المتعددة كسلاح معلوماتي للتأثير على الجمهور وكسب ثقته، مع التحكم في الخطاب الإعلامي خلال الأزمات لتحقيق أهداف وطنية وبما ينسجم مع سياسات الصحيفة التي ينتمي لها المراسل الحربي.
  3. أخلاقيات المهنة: الصحفيون، خاصة في مناطق الصراع، يُتوقع منهم الالتزام بالمهنية والمصداقية رغم التحديات المهنية والشخصية التي يواجهونها لتجنب مخاطر التعرض للقتل او الاختطاف او الابتزاز.

وبين الكاتب أن الصحافة في الحروب تظهر بأشكال مختلفة فليس كل الصحفيين ينتمون الى مؤسسات صحافية، بل هناك الصحفي المحترف، وهناك الصحفي الذي يتم التعاقد معه لفترة وجيزة، وهناك الصحفي غير المحترف وغيرهم:
المراسل الحربي: يواجه تحديات مهنية وأخلاقية في تغطية الحروب، مع التأثير المتبادل بينه وبين المؤسسة العسكرية.

  1. الصحافة المظلية: صحفيون ينقلون الأخبار سريعًا دون التعمق، ما قد يضر بجودة التغطية.
  2. الصحافة بالقطعة: يقوم بها صحفيون مستقلون، لكنها قد تثير جدلًا بشأن المصداقية.
  3. صحافة المواطن: تعتمد على الأفراد غير المحترفين لنقل الأخبار باستخدام الأدوات الرقمية.
  4. الصحافة المرابطة: يتم إلحاق عدد من الصحافيين مع القوات المسلحة بماء على اتفاق مبدئي بين المؤسسة الصحافية والمؤسسة العسكرية، ويكون الصحفيون تحت السيطرة المباشرة للقوات المسلحة وهي أحد الأشكال التي ظهرت خلال حرب العراق عام 2003 بغرض توفير الحماية للصحفيين في مناطق القتال.
  5. الصحافة العسكرية: تخدم الأهداف الاستراتيجية للمؤسسات العسكرية وتستهدف جمهورًا متخصصًا.

ومع تغير مفهوم الصراعات في القرن 21 ليشمل النزاعات غير النظامية، تطور التكنولوجيا، وتعقد بيئة المعارك يتطلب ذلك فهمًا أعمق للعلاقة بين الإعلام والسياسة العسكرية لتطوير استراتيجيات متكاملة لإدارة الأزمات.
مساقات صحافة الحروب وتطورها
تناول الكاتب تطور صناعة الصحافة عبر التاريخ فذكر أن صحافة الحروب انطلقت مع نشأة الصحافة في عصر النهضة عقب اختراع الطباعة عام 1438م، حيث تضمنت الرسائل الإخبارية المكتوبة عن موضوعات الحروب والأوضاع الاقتصادية. تطورت الصحافة في القرنين السابع عشر والثامن عشر مع ظهور الصحفيين المحترفين، وكانت الثورة الفرنسية من أبرز محركات تطور الصحافة. ظهرت أولى الصحف المنتظمة في أوروبا، مثل الصحيفة الألمانية في مدينة أنتويرب عام 1609م، والصحيفة الإنجليزية “ويكلي نيوز” عام 1622م، وأولى الصحف العربية مثل “جورنال عراق” عام 1816م، و”الوقائع المصرية” عام 1828م.
شهد القرن السابع عشر ظهور المجلات كمنصات علمية وسياسية، ثم تطورت لاحقًا لتشمل مجلات شعبية ومصورة. أدى ظهور وكالات الأنباء إلى تسريع تداول الأخبار، ومع استخدام الأقمار الصناعية والإنترنت، أصبحت الصحافة أكثر سرعة وتفاعلية في نقل الأخبار.
ظهر أول شكل واضح لصحافة الحروب خلال حرب القرم (1853-1856)، حيث أتاحت تقنيات مثل السكك الحديدية والتلغراف للمراسلين نقل الأخبار بشكل أسرع ومباشر. برز في تلك الفترة وليام هاورد رسل كمراسل حربي لجريدة “التايمز”، إذ كان شاهدًا للحرب وتحدث بصراحة عن أوضاع الجنود، مما أحرج السلطات البريطانية. كما برز روجر فنتون كأول مصور حربي، وثّق بعض جوانب الحرب دون تصوير العمليات القتالية.
لعبت الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) والحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898م دورًا رئيسيًا في تعزيز مكانة الصحافة الحربية. برزت شخصية المراسل الحربي وأصبحت أقرب إلى الأسطورية. وكان ونستون تشرشل، الذي أصبح لاحقًا رئيس وزراء بريطانيا، أحد أبرز المراسلين خلال حرب البوير الثانية.
شهدت الحرب العالمية الثانية بروز دور الصحافة والإذاعة، حيث اعتمدت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) على تعزيز خدماتها الإذاعية لتغطية الحرب. في الولايات المتحدة، تميز الصحفي إدوارد مورو بتغطيته الدرامية لهجمات هتلر الجوية على لندن عبر إذاعة CBS. إن تقارير مورو الدرامية والموثوقة للغاية كشاهد عيان عن الاحتلال الألماني للنمسا ومؤتمر ميونيخ في عام 1938، والاستيلاء الألماني على تشيكوسلوفاكيا في عام 1939، ومعركة بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، جلبت له شهرة وطنية وتميزت ببلوغ الصحافة الإذاعية مرحلة النضج. كما كان الروائي إرنست همنجواي أحد المراسلين البارزين خلال الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية ما بين عام 1936م وعام 1938م، وكان يعمل لصالح تحالف صحف أمريكا الشمالية (نانا)، واستطاع خلال تلك الفترة تجميع أفكاره حول روايته “لمن تقرع الأجراس” التي رشحت فيما بعد لنيل جائزة بوليتزر. ونظرا لشهرته كروائي، استغله المسؤولون العسكريون في الحرب العالمية الثانية في تغطية عملية الإنزال في نورماندي، وشاركت زوجته الثالثة مارتا تغطية الجبهة الروسية الصينية في نفس العام.
وأوضح الكاتب أن حرب فيتنام (1955-1975) كانت مرحلة فارقة في صحافة الحروب، حيث تميزت بتغطيات تلفزيونية غير مسبوقة أثرت على الرأي العام الأمريكي. برز في تلك الفترة الصحفي سيمور هيرش الذي كشف مذبحة “ماي لاي”، والصحفي البريطاني براين بارون. ساهم التلفزيون في زيادة وعي الشعب الأمريكي، ما أدى إلى تصاعد المعارضة للحرب. ومن الصحفيات التي غطت حرب فيتنام الصحفية غلوريا إيمرسون (1929-2004) التي قضت بعضًا من طفولتها في سايغون، وعادت إلى فيتنام في الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت تعمل لحسابها المستقل في صحيفة نيويورك تايمز، بعد أن خدمت فترات متفاوتة في مكاتب التايمز في لندن وباريس.
على الصعيد العربي، برز صحفيون مثل محمد حسنين هيكل، الذي غطى معارك الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين، وجمال الغيطاني الذي وثّق نكسة 1967 وانتصار أكتوبر 1973. وكان فاروق الشاذلي وصلاح قبضايا، صاحب كتاب “مشاهد الضربة الجوية” الذي تحدث فيه عن الضربة الجوية، وعملية العبور، والساتر الترابي وتحصينات خط بارليف، وتغطيته المتميزة في حرب اليمن، حيث أصيب بطلقة كادت تقضي عليه، كل هؤلاء كانوا يعملون لصالح جريدة «أخبار اليوم» مراسلين حربيين. وإلى جانب هؤلاء هناك الصحفي عبده مباشر من جريدة الاهرام، وحمدي الكنيسي رئيس الإذاعة المصرية الأسبق، وحمدي لطفي عميد الصحفيين المصريين المتخصصين في الشؤون العسكرية، والمراسل الحربي لدار الهلال. كما اشتهر رياض نجيب الريس بتغطيته صراعات فيتنام واليمن وظفار.
في الختام، لعبت صحافة الحروب دورًا محوريًا في نقل الحقائق وإبراز معاناة البشر في مناطق النزاعات، وساهمت التكنولوجيا في تطوير هذا المجال ليصبح أكثر تأثيرًا وتفاعلًا مع الجمهور.

زر الذهاب إلى الأعلى