في مبنى “بروشيك هاوس” حيث ولدت صحيفة “دي فيلت” الألمانية

حمود السيابي

———————————————

حمود بن سالم السيابي

———————————————

ذات عودة من المستشفى الجامعي بهامبورج استقبلتنا إدارة فندق “بارك حياة” بخبر اضطرارها لنقلنا إلى “الماريوت” الذي يرتبط بتوأمة معه ولليلتين فقط.

وتحججت الإدارة بضغوط الموسم السياحي وتضييقه للخيارات.

وأنها مرتبطة بتعاقدات سابقة مع الشركات السياحية فأملت اتخاذ مثل هذا الإجراء.

وكان بمقدورنا أن نرفض لولا أننا نحمل للإدارة وقفات رائعة معنا في سفرات سابقة فتفهمنا ظروفها.

ورغم الانزعاج في قرارة النفس من البعثرة بين الأمكنة ، لكننا أدركنا أن الغلبة في النهاية لأصحاب الأرض.

وفي المصطلحات الرياضية فإن الأرض تلعب مع أصحابها ، فكيف وهؤلاء لهم الأرض ومنهم الحكم بصفارته المسلطة وبطاقاته الحمراء.

ودعنا شارع “منكبيك اشتراسيه” بثرائه المعماري وبرانداته وأبراج كنائسه وتماثيله وتيممنا شطر الحارة المتربعة على الضفة الثانية لبحيرة “بنين أليستر” أو أليستر الداخلية.

لم يكن الموقع الجديد بأقل من “منكبيك اشتراسيه” من حيث الثراء ، لولا الألفة مع مناخنا السابق حيث تمثال الشاعر الثائر “فريدريتش بونهوفر” ومسرح “ثاليا” و”الهبانوف” و”شتايندم”.

لكن “الماريوت” هو الآخر فتح جوارا مع الشعر فتصادفنا مع تمثال الشاعر “غوتهولد إفرايم ليسينغ” وهو الأشهر من “بونهوفر” ويتجلى ذلك من تمثاله الضخم الذي يتوسط ميدان جانس ماركيت.

إلى جانب قرب “ماريوت” من “بلانتن أون بلومن” أو الحديقة النباتية التي مرت سريعا في سيرة الأميرة سالمة.

ولربما رأت الأميرة سالمة الصنوبر الذي يغتسل في النهر ، ولعلها اقتطفت الفرصاد الأسود لأطفالها من الشجر الذي يطرز سكك الحديقة.

لكن الأميرة بالتأكيد لم تلحق على الإضافات التي أدخلتها إدارة “بلانتن أون بلومن” من بحيرات صناعية تتوسطها النوافير الراقصة على أنغام السيمفونيات العالمية مع تشكيلة من الأضواء الملونة.

لقد تحول التذمر والضيق من الانتقال إلى هيام بالمكان الجديد الذي يتعاقب على سمائه المطر والنوافير والقصائد.

وفي سفرتنا الأخرى لهامبورج صيف عام ٢٠٢٣ كانت البلدة غير التي نعرفها بعد أن أتعبها “كورونا” وحذف ضمن ما حذف فندق بارك حياة فأخرجه من “البوكنج دوت كوم” بل ومن قائمة فنادق هامبورج الذي احتطبه فأس الوباء اللعين مع حزمة من الشركات العملاقة ليستحوذ “الماريوت” على الساحة كثاني أقرب فندق لوسط هامبورج بعد “الفيرمونت” الباذخ.

لم نتردد في اختيار الماريوت فقد سبق لنا وسبرنا غوره وقرأنا تضاريس المكان ، إلى جانب أن “البوكنج دوت كوم” قدمت سعراً تفضيليا بين فنادق وسط البلد.

لكن الماريوت تذكر توأمه الفندق المغيَّب فورث تقاليده بما فيها تفويج المقيمين إلى فنادق متعاونة ، فهو كسلفه بارك حياة لا يرى غضاضة في ذلك بل يعتبره مندوحة قد تعلي من الصيت وتضاعف من لمعان الاسم كوجهة مفضلة للسياح.

لم نفاجأ بما يكرره الماريوت من فعائل وعُقَدَ الكبار فيقرر تفويجنا مع آخرين من زبائنه إلى توأمه المتعاون وهذه المرة إلى فندق “الرينيسانس” والذي لا يبعد عنه سوى نصف كيلومتر ، لدرجة أن التكسيات القشدية اللون ترفض نقل الركاب من “الماريوت” إلى “الرينيسانس” لقصر المسافة.

وكما سبق وتركنا “بارك حياة” القريب من تمثال الشاعر الثائر “فريدريتش بونهوفر” ها نحن نخسر بانتقالنا من الماريوت جوار الشاعر “غوتهولد إفرايم ليسينغ”.

دحرجنا حقائبنا الصغيرة عبر حجارة شارع “هوه بليشن” باتجاه ناصية “هيوبرغ” التي تلتقي بشارع “جروب بليشن” ولمْلَمْنا أنفاسنا اللاهثة ونحن عند أعتاب المبني البني اللون نطالع أحرف “الرينيسانس” الذهبية وقد تناثرت بعلو الطوابق الخمسة للمبنى القادم من الربع الأول للقرن العشرين.

المكان يبدو أقدم من عمره بكثير ، ونمطه ينتمي لمجمل المفردات المعمارية التي تتزاحم كتفا بكتف في حي “نيشتاد” التاريخي بمبانيه المتجذرة في “هانزيتها” المفرطة وبألوانه التي تتسرب في أزمنة “الفايكنج” الموغلة في القدم.

هنا تنساب أنهار القهوة من براندات المقاهي الشهيرة بموازاة القنوات التي تتخلل الحي الراقي والتي تفترش الضفاف ، وتتلاقى مع أنهار الأناقة التي تتدافع من شارع الماركات وتصطخب بحرقة أشواق “المكاتيب” المسافرة والآيبة عبر صناديق مبنى البريد التاريخي.

دخل الابن مازن ليستكمل الاجراءات وبقيت وحقيبتي تحت شجرة معمرة في المدخل أنزف الأسئلة عن مكان مررتُ به أم لم أمر؟

وهل سبق لي وقرأت أسماءه وأيقوناته أم لم أقرأ ؟.

أقترب من البوابة الزجاجية ل”بروشيك هاوس” وهو اسم المبنى الذي يشغله فندق “الرينيسانس”

ووفق اللوحة الزرقاء التي تضعها بلدية هامبورج على واجهات المباني التراثية تشير إلى أنه شيد عام ١٩٢٦م أي أن عمره يقترب من المائة عام ، وهو بين الأحدث من كنوز حي نيشتاد.

وحسب لوحة المبنى فإنه شيد كمقر لدار للنشر.

ولمجرد أن قرأت اللوحة وعرفت ارتباطه بالنشر قفز في الذهن اسم أبي هشام “سيد دار لبان” الشامخة فبعض الأحلام تزهر هنا وهناك.

وتفول سيرة المبنى أن نوايا البُناة قامت على تشييد برج شاهق يلون أفق البلدة “الهاينزية” وبنمط معماري غير مألوف ، حيث سيكون على شكل هرم فرعوني.

وستمثِّل الطوابق الخمسة الأولى للمبنى قاعدة للهرم ، ثم يستأنف الهرم تدرجه بدءا من الطابق الخامس ليضيق فيضيق فيضيق إلى أن يتناهى كرأس لزاوية حادة.

لكن الأماني تضاءلت عند احتساب كلفة التنفيذ العالية فحصل التقاطع بين رؤى المهندس “فريتز هوجر” مصمم المبنى وملَّاك “بروشيك هاوس”.

لكنهما تصالحا في النهاية ليبقى الهرم بعلو ثلاثة طوابق إلى جانب القاعدة بطوابقها الخمسة فيستقر “بروشيك هاوس” في المحصلة النهائية على ثمانية طوابق.

وأراد المهندس “فريتز هوجر” الحالم بهرم رابع في هامبورج ليقال “خوفو وخفرع ومنقارع ورابعهم “فريتز هوجر” أن “لا يخرج من المولد بلا حمّص” فتفتق الذهن عن وضع تكوينات مثلثة أشبه بالأهرامات من معدن لامع كالذهب على الواجهة يطفئ بها نيران لواعجه الفرعونية.

وقد نجح في رصِّ تلك المثلثات على الطابوق الأحمر للجدران.

وكلما أطل النهار تعامدت الشمس على المثلثاث فسطعت كبلورات ملأى بالمصابيح أو كأشرعة توشك أن تبحر صوب الشطآن البعيدة.

وإذا ما جن الليل كانت أضواء السيارات وأعمدة الإنارة توشوش المثلثات فتعود إلى المكان إيحاءات منارة “الهافن” سيتي وأبراج الميشيل ونيقولا.

وقد استلهم فكرة المثلثات الساطعة من تعامد الشمس على قدس الأقداس لمعبد “أبو سمبل”.

لكن “فريتز هوجر” تمادى في مشاعره فجعل مثلثاته دائمة السطوع ، متى ما كانت هناك شمس تشرق من سديم الأفق أو تطل بعد انقشاع الغيم على العكس من ظاهرة تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني التي تحدث لمرتين فقط في العام أي في ٢١ فبراير و٢١ أكتوبر من كل عام.

كما نجح المهندس فريتز هوجر والمسكون بشغف علم المصريات في تخليق زاوية غائرة في أحد الحيطان ليثبت عليها تمثالا ذهبيا له ، وهو يجلس وبيده مطوية التصميم.

ولعله أراد بحركة تثبيت التمثال في المبني ليكون قدس أقداسه.

ما زال الحديث مستفيضا بين مازن وإدارة “الرينيسانس ” فمازن يجيد التحاور ويعرف طرق اقتناص المزايا التفضيلية والاطلالات التي تستشرف بذخ الحي التاريخي إلى جانب خدمات “كلوب لونج” ، وما زلت أستنطق تاريخ المبنى وأفتش عن حلم ملاكه كدار نشر.

تقول حكاية “بروشيك هاوس” أن البريطانيين هم من عانقوا أحلام ملَّاكه فأعادو إلى المبنى رائحة الحبر والورق وزيوت المطابع وذلك في أعقاب السقوط المدوي لبرلين والهزيمة النكراء لدول المحور ، وهطول قنابل الحلفاء كالمطر على هامبورج التي شربت أكثر من غيرها علقم كؤوس الحرب العالمية الثانية.

وكان تمثال الشاعر “غوتهولد إفرايم ليسينغ” بين معالم المدينة التي دكها الحلفاء ، فقد وقفتُ على صورة مؤلمة للشاعر وهو يغادر قاعدته لينكب على وجهه بجوارها.

وفي الثاني من أبريل عام ١٩٤٦م. ولدتْ بمبنى “بروشيك هاوس” صحيفة “دي فيلت” الذائعة الصيت والواسعة الانتشار ، فكانت رافعة من رافعات القوة الناعمة للبريطانيين المنتصرين.

ويبدو أن الشاعرين الذين تركتهما بجوار “بارك حياة” و”الماريوت” هاهما يطلان مع كوكبة من مفردات المشهد الألماني بقصائدهما في الملحق الثقافي لصحيغة “دي فيلت” وبذلك لم أخسر جوار الشاعرين بل ربحت الجلوس على نهر القوافي الألمانية.

وقد اختار البريطانيون الصحفي “رودولف كوسترماير” لرئاسة تحرير “دي فيلت” وهو أحد خريجي سجون هتلر ، والملاحق من “الغستابو” بتهمة انضمامه إلى “روتر ستوتروب” المناهضة للنازيين والناقمة لأساليبهم وأدواتهم القمعية !.

ورأى البعض أن تعيينه على رأس صحيفة يومية بمثابة مكافأة بريطانية ممتدة منذ وعد بلفور لكل ما يحقق أماني اليهود ، فالصحفي “رودولف كوسترماير” من المجاهرين بتعاطفهم مع قيام دولة الاحتلال على أرض فلسطين السليبة ، وقد كرَّسَ قلمه كعراب لمرحلة ما بعد الهولوكوست.

وكانت له مبادراته المشهودة في قيادة المصالحة الألمانية مع محتلي فلسطين.

ولذلك فضل الرجل أن يمضى بقية عمره بعد أن ترك رئاسة تحرير ” دي فيلت” في فلسطين المحتلة فعينوه كأول مراسل للصحيفة هناك.

أدخل باب “بروشيك هاوس” فيقودني لبهو واسع ، ينتصب في ركن منه قسم الاستقبال وتهيمن على الباقي أرائك لمقهى فاخر.

ولربما كان هذا البهو في الأساس قاعدة اسمنتية للمطبعة التابعة لدار النشر فتحول فيما بعد قاعدة لمطبعة صحيفة “دي فيلت”.

وشهد المبنى عدة تحديثات وفق طبيعة استخداماته من دار نشر إلى صحيفة يومية إلى مقار لشركات وانتهاء بفندق فاخر.

ووحده خشب الدرابزين للسلم الحجري المزدان بالبورسلين الأحمر والقشدي هو العابر للزمن والصامد في وجه التجديد إلى جانب المثلثات الذهبية للواجهة وتمثال المهندس كأيقونات للمبنى.

أدخل غرفتي بالفندق والتي تستشرف حي “نيشتاد” بنافذتين كبيريتين ، ولعلها كانت غرفة لمحرر يسكب غِلُّه وحقده على عصر الطغاة ، ويسمل بمخرز قلمه عين “الغستابو” التي تلصصت على أهله لسنين.

ولربما هذه الغرفة هي لمحرر ثقافي تشغله قصيدة” قلعة الأحلام” ل”هاينريش هاينه” أو مسرحية إميليا جالوتي للشاعر إفرايم ليسينغ.

أو يفرد صفحات بالملحق الثقافي ل دي فيلت يكفكف بها مدامع أحزان “يوهان كريستيان فردريش هولدرلين” لقصيدته “خبز ونبيذ”.

وكان اللافت في الغرفة وهي ثمرة تفاوض بين مازن و”كاونتر الرينيسانس” أن “الكوميدينو” المجاور للسرير عبارة عن صندوق خشبي قديم للشاي.

وقد سبق لي وغردت قبل عام ونصف عن “كوميدينو” هذا الغرفة فكتبت يومها :

“ما زال البحر يسكن هامبورج ، وحنينها المالح هو الذي حفظ هذا الصندوق الخشبي الممهور بموانئ الوصول والقدوم بين هامبورج و”كَلْكُتَّا” ليكون بديلا للكوميدينو في غرف أحد فنادقها.

‏ولطالما طاف مثل هذا الصندوق المحيطات وبداخله القهوة والشاي.

‏أتحسّس خشب الصندوق لعل رائحة مطرح في خطوط الترحال”.

جلستُ على أريكة قماشية بلون “جواني العيش” أستدعي صفحات “دي فيلت” كذاكرة لحروب الطغاة ضد الطغاة.

وأتساءل عن البريطانيين الذين تجرعوا عبر تاريخهم ويلات الحروب وكادت لندن أن تختفي من الخارطة في مرحلة من المراحل ومع ذلك لم يتعضوا بل تمادوا في إجبار غيرهم ليتجرعوا ذات الويلات.

وبدلا من أن يستلهموا شاعرية نبيلهم شكسبير :

“على المرء أن ينتظر حلول المساء ليعرف كم كان نهاره عظيما”.

انحازوا لمقولة نفس الشاعر المشبعة بالانتقام :

“إننا نعلّم الآخرين دروساً في سفك الدماء، فإذا ما حفظوا الدرس قاموا بالتجربة علينا”.

وعودة لمبنى “بروشيك هاوس” فإن صحيفة دي فيلت التي ولدت هنا زحفت بعد سنين إلى حواضر ألمانية أخرى فتداولت المبنى الشركات والفنادق ليستقر عند “الرينيسانس ” الذي أنزل فيه لليلتين مع الإبن مازن بقرار من “الماريوت” فأغرق في سيرة ولادة صحيفة يومية تعيدني لمولد جريدة عمان مع تغير الأهداف والسياسات.

ولكنها لعبة الصدف مرة أخرى.

ولعبة الأماكن المترعة بالحكايات.

——————-

مسقط في ٢١ يناير ٢٠٢٥م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى