حين تهمس اللوحة بالحكاية فهد المعمري نموذجا

بقلم: سيلينا السعيد
كاتبة لبنانية – مسقط

في زوايا عُمان، حيث تتعانق الجبال مع البحر، وتروي الرمال حكايات الأجداد، ينبثق الفنان التشكيلي فهد بن سالم بن ناصر المعمري، حاملاً ريشته التي تمتصّ عبق الأرض وتترجم تفاصيلها إلى ألوان تنبض بالحياة. فهد ليس فنانًا فحسب، بل هو شاعر الضوء، الذي يحوّل لحظات الحياة العمانية إلى قصائد صامتة لا تُروى بالكلمات، بل بالخطوط والظلال.

بين الذات والمكان… ولادة الحكاية

في كل لوحة من لوحات فهد، هناك عبورٌ إلى زمن آخر، إلى وجوه كانت هنا ذات يوم، إلى نخيل يراقب صمت الأرض وهو يتهجّى قصائد الحياة. لم تكن تجربته الفنية مجرد انعكاسٍ لبيئته، بل كانت حوارًا داخليًا مع المكان، ومحاولة لفهم كيف تحوّل الأشياء الصامتة إلى لغة مرئية تحكي قصة الإنسان العماني.

منذ نعومة أظفاره، كانت الألوان تناديه، والخطوط تهمس له بأسرارها. درس التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس، ثم غاص في أعماق تصميم الجرافيك في الهند، وعاد إلى وطنه محملاً بالشغف، يتنقل بين ريشته وقلبه ليصوغ صورة الوطن كما يجب أن تُروى.

“تكوير”… حين يتشكل الحلم من اللون

في معرضه “تكوير” الذي أُقيم في الدمام، نقل فهد إيقاع الحياة العمانية إلى لوحات تنبض بالحركة والروح. لم تكن مجرد صور جامدة، بل كانت نبضات قلب وطنه، تحاكي الأزقة القديمة، تهمس بحكايات الأطفال، وتوثّق مشاهد الحياة اليومية.

كل لوحة كانت لحظة وذكرى، وكل لون كان اختزالًا لظل نخلة أو عبق حجر أو زقاق تتردد فيه أصوات الحياة. لم يكن المعرض مجرد عرضٍ للوحات، بل كان دعوة للتأمل في تفاصيل الهوية، وفي العلاقة التي تنشأ بين الإنسان والمكان. كان تكويرًا للحظة، وللصورة، وللذاكرة.

في قطر… حيث يلتقي التراث بالمعاصرة

وفي رحلته الأخيرة إلى قطر، كانت للوحات فهد المعمري حضورٌ مختلف. شارك في معرض جسّد الثقافة المشتركة بين عمان وقطر، حيث تلاقت تفاصيل المكانين وتداخلت رؤى الفنان في قراءة عميقة للجمال التراثي الذي يسكن كلا البلدين.

في تلك اللحظات، كانت لوحات فهد تتحدث عن الإنسان أكثر مما تتحدث عن الحجر. كانت تهمس بلغة مشتركة تربط القلوب وتوحد المشاعر، حيث تقف الموروثات جنبًا إلى جنب، لتُقدّم سردية موحدة عن ذاكرة الخليج، وتفاصيل المكان التي لا تموت.

غلاف المجلة الثقافية في مصر… حين تُروى الحكاية بريشة صادقة

ولأن الفن الحقيقي لا يعرف حدودًا، ولا يتوقف عند مكان، كان لفهد المعمري حضور مميز في مصر، حيث اختيرت إحدى لوحاته لتكون غلافًا لإحدى المجلات الثقافية المصرية. لوحة لم تكن مجرد صورة، بل كانت ملحمة تحكي عن الأرض، والإنسان، والروح.

حين رسمها، لم يكن يرسم مكانًا بعينه، بل كان يرسم الإحساس الذي يسكن الأرض، والحنين الذي يسكن الإنسان. وكان اختيارها كغلاف ليس تقديرًا لفنه فقط، بل اعترافًا بقيمة ما يحمله من رسالة ثقافية وإنسانية عميقة، تتجاوز المكان وتصل إلى روح الإنسان أينما كان.

فلسفة الفن… حين يصبح اللون مرآة للذات

يقول فهد:
“أركز في بيئتي؛ كوني أعيش في بيئة تسمح بالتعاطي والتفاعل بشكل كبير، وتشمل عناصرها النخيل وزقاق البيوت والجبال وغيرها من العناصر المنتشرة في السلطنة.”

بهذه الكلمات، يكشف عن فلسفته الفنية التي ترى في البيئة مرآة للروح، وفي الفن وسيلة لتوثيق التراث ونقله للأجيال القادمة. لم يكن استخدامه للألوان المائية مجرد اختيار تقني، بل كان انعكاسًا لشفافية روحه وتدفق مشاعره. ففي كل ضربة فرشاة، نرى تمازج الضوء والظل، ونشعر بنسيم الصباح وأغاني الطيور. لقد استطاع أن يُحوّل اللوحة إلى نافذة نطل منها على عُمان بكل تفاصيلها وجمالها.

حين يتنفس اللون… وتنبض الذاكرة

في كل لوحة من لوحاته، ثمة سؤال: كيف نحفظ الزمن في صورة؟ كيف نُخلّد لحظة عابرة في ظلٍّ على جدار، أو في شجرة تهمس بأغنية قديمة؟
إن فهد المعمري، بريشته، لا يرسم شكل الأشياء، بل يرسم ما وراءها: يرسم الإحساس، الذاكرة، والحنين الذي يسكن تفاصيل الحياة.

فهد المعمري… شاعر يرسم، وفيلسوف يحاور المكان

إنه لا يرسم الألوان، بل يرسم الحكايات. كل لوحة منه هي قصيدة صامتة، تقرأها العين وتستمع إليها الروح. هو فيلسوف يعرف أن الجمال لا يُصنع، بل يُكتشف، وأن الفن الحقيقي ليس هو ما نراه، بل ما نشعر به حين نعبر التفاصيل الصامتة.
هو شاعر يكتب بالظل والنور، ويدعونا جميعًا لنقرأ الحكاية مرة أخرى، لا كما هي، بل كما يجب أن تكون.

خاتمة… الفن كرحلة إلى الذات

في زمن يتسارع فيه كل شيء، يأخذنا المعمري في رحلة هادئة إلى الجذور، إلى تفاصيل الحياة التي نظنها عادية، لكنها في عينه لوحة تستحق أن تُخلّد.
فهد المعمري ليس مجرد فنان تشكيلي، بل هو شاعر الحياة العمانية، الذي اختار أن يكتب بقلبه، ويترك للزمن أن يقرأ حكاياته. هو حارس الجمال، وصوت الأرض، وذاكرة الأمكنة.

لوحاته ليست رسومات فحسب، بل دعوات للتأمل، نوافذ تُطل بنا على ما كنا عليه، وما نحن عليه، وما يجب أن نكون. هو فنان لم ينس أن الفن الحقيقي هو ذاك الذي يمسّ الروح، ويوقظ السؤال، ويمنحك حلمًا تعود إليه كلما أرهقتك الحياة.

هكذا هو فهد المعمري… يرسم ليكتب تاريخًا من الضوء، ويترك في كل لوحة أثرًا لا يمحوه الزمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى