الشعر والنثر بين السياسي والأديب

سليمان المعمري
ذكرنا زُهران ممداني في خطاب فوزه بمنصب عمدة نيويورك يوم الثلاثاء الماضي بعبارة بليغة لحاكم نيويورك الأسبق ماريو كومو، لَطالما استخدمها ساسة أمريكا من بعده في خطاباتهم للجماهير، ألا وهي: «السياسيون يخوضون الحملات بلغة الشعر، ويحكمون بلغة النثر». نطق كومو بهذه العبارة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وتُعَد اليوم من أكثر الجُمَل السياسية شهرة، ويمكن شرحها بأن المرشح لمنصب سياسي يعرف أن الناخبين يبحثون دائمًا عن الأمل مهما بدا الواقع قاتما أو غير مشجع على التفاؤل، ولذلك فإنه يتحدث إليهم في حملته الانتخابية كما يتحدث شاعر يوقظ المخيلة؛ عن العدالة والمساواة والعيش الكريم والأحلام الوطنية. أما حين تؤول إليه دفة المسؤولية فإنه يعود إلى «لغة النثر»؛ لغة الواقع والإدارة اليومية والتفاصيل العملية التي يواجهها هذا السياسي بعد فوزه، وربما لم يضع لها أي حسبان. ذلك أن عليه أن يتعامل منذ لحظة فوزه مع القوانين المكبِّلة، والميزانيات المتقشفة، والمصالح المتناقضة، والتوازنات الأشبه بالسير على صراط مستقيم، وأخطاء من سبقه في المسؤولية، وضغوط الواقع الذي لا يرحم. وإذن؛ فإن النثر هنا يرمز إلى الواقعية والبراجماتية مقابل الشعر الذي يرمز إلى المثالية والأحلام. ويمكن اختصار هذا كله بالمثل العُماني «في الخطبة، اللسان رطبة»!
ثمة تساؤلات لا بد من طرحها ونحن نتأمل عبارة كومو: هل يعكس هذا احترامًا من السياسيين لقيمة الأدب شعرًا ونثرا، واعترافا بتأثيره في حياة الناس؟ أم هي مجرد نظرة دونية للشعر الذي هو صنو الحلم في مقابل النثر الذي هو ابن الواقع؟ في الحقيقة قد نخمّن الجواب إذا ما عدنا تسع سنوات إلى الوراء. في مساء الخامس والعشرين من يناير 2016، وقفت هيلاري كلينتون على منصة لقاءٍ جماهيري نظمته شبكة CNN في جامعة دريك بولاية آيوا الأمريكية، وأمامها إعلان دعائي لمنافسها في الحزب الديمقراطي لمرشح منصب الرئاسة الأمريكية بيرني ساندرز، مصحوبًا بأغنية وطنية تظهر فيها جماهير تحتفل، وشباب يعانقون بعضهم بعضًا بفرحٍ، في مشهد ضاج بالحلم. وقفت كلينتون تنظر إلى الشاشة بابتسامةٍ باهتة، ثم قالت حين انتهى المقطع: «أعتقد أنه رائع! أحببته». وبعد لحظةٍ من التصفيق أضافت بنبرةٍ أكثر جدية: «كما تعلمون، المرء يخوض الحملة بلغة الشعر، لكنه يحكم بلغة النثر. ونحن بحاجة إلى مزيد من الشعر في حملتنا وفي بلادنا، لذا أحيّي ذلك الإعلان وأحب إحساسه وطاقة الناس فيه». ثم استدركت وكأنها نسيتْ أن تقول شيئا مهمًّا، أنها ستكون «الشخص الأفضل» لتولي منصب الرئيس، في غمز مبطن من قناة ساندرز الذي بدا في ذلك الإعلان شاعرًا مثاليًّا بينما هي السياسية البراجماتية التي تؤمن بأن الشعر جميل، لكنه لا يكفي للحكم! وقد خطفت هيلاري ترشيح الحزب من ساندرز بالفعل، لكنها لم تصمد في اختبار الرئاسة أمام ترامب؛ الرجل الذي إذا سمع الشعرُ مجرد اسمه بالصدفة فَرّ مذعورًا من الكوكب كله وهو يبكي.
هي نظرة دونية إذن من السياسي للشعر، ومثيرة للاشمئزاز، خصوصا إذا كان هذا السياسي بصفات هيلاري التي نعرفها، غير أن ثمة سببًا آخر للاشمئزاز من انتشار استخدام تلك العبارة في السياسة تورده كاثلين كيلي ريردون الأستاذة الجامعية المتخصصة في الإدارة والتنظيم في مقال لها بمدونتها، وهو أنها – أي العبارة – «عادةً ما تُقال وكأنّ علينا أن نقبل بأنّ كذب المرشّحين خلال الحملات الانتخابية أمرٌ عاديّ». وأظن أن هذا التخوف من الكذب هو ما كان يعرفه زهران ممداني حين استدرك في الخطاب نفسه المشار إليه: «فإن كان هذا حتميًا» أي خوض الحملة بلغة الشعر والحكم بلغة النثر»، فليكن نثرنا موزونًا بالقافية، ولنبنِ مدينةً متألقة للجميع. «..» لتكن الكلمات التي نطقناها، والأحلام التي حلمناها، البرنامج الذي ننجزه سويًّا»، وهي دعوة صريحة إلى النزول بالشعر من خيالات الشعراء إلى أرض الواقع.في المقابل لا يمكن النظر لتنظيرات الأديب عن الشعر والنثر بالعين المتشككة نفسها التي ننظر بها لتشدقات السياسيّ. ذلك أنه عندما يتحدث شاعر عن الشعر أو ناثر عن النثر فهما يصدران عن تجربة عرفاها جيِّدًا، وانكويا بنارها، أما السياسي فيتحدث عن قيمٍ بعيدة عنه، يختبرها من خارجها، ويستخدمها لتبرير أفعاله وليس لفهمها، فهو يتحدث ليؤثّر، وليقنع، وليُوجّه الرأي العام نحو غاية عملية أو مصلحة آنية. أما الأديب فخطابه الجمالي هدفه الفهم والكشف والتأمل، لا الكسب أو السيطرة، وتنظيره عن الشعر والنثر ليس وعدًا انتخابيًا، بل محاولة لتفسير العلاقة بين اللغة والعالم. من هنا نُعجَب مثلًا بعبارة الشاعر الفرنسي بول فاليري: «الشعر بالنسبة إلى النثر كالرَّقص بالنسبة إلى المشي»، ومن هنا أيضا يستهوينا التفريق البليغ بينهما (أي الشعر والنثر) بلغة الشاعر الإنجليزي صامويل كوليردج: «النثر: كلمات في أفضل ترتيب؛ بينما الشعر: أفضل الكلمات في أفضل ترتيب».
وعلى كل حال، فإن ما أؤمن به حقًّا أنه لا ينبغي أن نَعُدَّ الشعر والنثر ضدين متنافرين، فهما ليسا كذلك. بل هما في الحقيقة صورتان متكاملتان لحاجة الإنسان العميقة إلى أن يعيش ويعبّر في الوقت نفسه؛ فالشعر هو النَّفَس الذي يمنح للحياة معناها، والنثر هو الإيقاع الذي يمنح لها نظامها واستمرارها. ولا أظنني مبالِغًا إن قلتُ إن السياسي الذي يفتقد الشعر، يفتقد القدرة على الإنصات إلى نبض الناس، فيتحوّل إلى آلةٍ للسلطة تدور وفق منطق القوة لا الوجدان والشعور. وفي المقابل، فإن الشاعر الذي يجهل النثر، أي لغة الواقع، يصير مجرد ظِلٍّ للخيال، عاجز عن أن يهب كلماته أثرًا في العالم. وربما كان الأجدى والأكثر حكمة من السياسيين أن يتعلموا خوض غمار المسؤولية بلغة الشعر، وأن يحلموا بلغة النثر، مع شديد الاعتذار لكومو على التلاعب بعبارته.
•المصدر : جريدة عُمان





