رقمنة العقل..

بقلـــم د. إسحاق بن أحمد البلوشي
ذهب الناس في وصفه مذاهبًا كثيرة، واحتار الأدباء في وصفه حيرةً كبيرة، وافترى عليه الفلاسفة افتراء عظيما، لكنني عندما تتبعت أخباره، وتدبرت أوصافه، وتمعنت فضائله وخصائصه، وجدت فيه حقيقة صادقةً لا خيالًا مكذوبا، ووجدت فيه كمالًا ناصعًا لا شكلًا خادعا، ولم يوجد مثله مدبرًا، ولم يخلق مثله محيرًا، وليس شيئًا أعز على الانسان منه؛ فبه يسعد وبه يشقى، وليس شيئًا على الانسان أغلى منه؛ فبه يحيى وبه يموت.إن العقل في خلقه إعجاز لا يدركه العقل، وفي طبيعته لغزٌ لا يفهمه العقل، وإنما وجد لحياة البشرية، وليس في فنائه إلا فناءها، وليس في بقائه إلا بقاء البشرية، فلا استقامة لشيٍء إلا بالعقل ولا انحراف لشيٍء إلا بانحراف العقل، فهو الذي به يُزمُّ شرُّ الأهواء والرغبات، وهو الذي به يقيَّد جهل الأفكار والكلمات، وبه يكون الاقدام والاحجام، ومنه تنطلق الحكمة ومنطق الكلام. لم يرتبط معناه في سياقات النصوص واللغة بشيء أكثر من ارتباطه بالتفكر والتأمل، وبالتعقل والتدبر، وبالبحث والاستفهام، تلك هي الوظيفة السامية المناطة به، وتلك هي الغاية الكبرى المكلفُ بها، فبذلك وحده يعرف معنى الوجود، وبذلك وحده تكتشف الإنسانية سرَّها، وهو الذي بذكائه ولِد ذكاء التقنية، وهو الذي بفكره جاء علم البشرية.
لا يجد العقل هذه الأيام عدوًا أشد عداوةً عليه من العقل، ولا يجد العقل ظلمًا عليه أقسى من ظلم الانسان، فما أن ينتهي من الإتيان بالمعرفة والعلم فيما تحتاجه حياة البشر، يجد العقل نفسه حائرًا تائهًا لا يُراد منه إلا التعطيل، ولا يُطلب منه سوى السكون والخمول والنوم، فالذي تنادي به المواقع الاليكترونية والمنصات المنتشرة اليوم، ليس إلا اخمادُ ثورة الفكر وإعمال العقل، وليس ذلك إلا نداء مغلفا بالذكاء مبطن بالغباء.يوم أن أطلقت التقنية اسم Chat Gbt وإخوته الكبار والصغار، توالت الأفراح والاحتفالات، وأقيمت الموائد والمناسبات، احتفاءً بقدوم الضيف الذي جاء زائرًا في شكله، مستنقصًا مستحقرًا في حقيقته، وبحسب شدة التحجر والتخلف الذي أصاب العقل، تفاوتت وتباينت احتفالات الترحيب به؛ فمنهم من أقام المؤتمرات والندوات للتعريف به، ومنهم من كان في مرحلة متقدمة من التحجر والتخلف؛ فعقد الورش والمحاضرات للتعرف عليه، داعين الصغير لمصادقته والكبير لمصاحبته. كيف لا وهو العقل البديل والصاحب الدليل، كيف لا وهو العالم الفقيه والطبيب النبيه، كيف لا وهو الذي إذا سألته عن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ أجاب، وإذا سألته عن أي إشكال ومعضلة أجاد وأصاب، كيف لا وهو الذي عندما سأله أحد الحمير عن أسباب سعادة مجتمعات الانسان في هذا العصر رغم قسوة معيشتهم وسوء حالهم، فأجاب وأبدع ورد وأقنع وقال: لأنهم جاوروا مجتمعات الحمير؛ فاكتسبوا شيئًا من صفاتهم، ولا شك أن الجار بالجار يسعد، وهل يوجد مجتمع أسعد من مجتمعاتكم أيها الحمير، وهل رأيت حمارً تعيسًا قط، ففرح الحمار أيما فرح، واتخذ ChatGbt صاحبًا له، كما فعل الكثيرون اليوم متخذين ذلك الحمار أسوةً لهم.ثم توسعت دائرة الأسئلة فسألوه ماذا يأكلون وماذا يشربون، وسألته أحداهن ماذا تلبس وماذا ترتدي ومن تصاحب ومن تخالل، وبعضهم تعدى مرحلة الأسئلة والاستشارات، وأعلنوا مصاحبته وتبادلوا معه عبارات الشكر والامتنان، وقدموا له الورود والهدايا، وتبادلوا معه القبلات، فما لبثت الشاشات أن تعطلت من خبث روائح أفكارهم وسذاجة عقولهم.
وما أن نجح ChatGbt في امتحان أسئلة الحمير، أرادوا منه تفوقًا جديدًا، فسألوه أسئلة في الدين وفي الشريعة وفي سائر العبادات، فوجدوا منه أجوبة غاية في الدقة والجمال، لا تشديد فيها ولا أثقال، فهو يقرأ ما في النفوس من حركة الأصابع على الأزرار، ويعرف تاريخ السائل وسيرته من رائحة عطره ولون الشفاه والأظفار!! فانبهروا به وأبدعوا في مدحه وتعجبوا من علمه وعمله، فهو عالم بما كان وبما لم يكن وبما سيكون، والغريب أن بعض الأسئلة كانت محرجة له، فتسببت في اعتقال أصحابها بعد الشكوى والحكم مراعاةً لمشاعره وحفاظًا على مستقبله (يا للعجب)!!إن ما يجري اليوم من تقدم التقنية ورقمنة الانسان، من شأنه أن نجد الانسان في قابل الأيام آلةً تتحرك وروبوتًا يمشي، فاقدًا كل ما يصله بمعاني الإنسان، متصفا بكل ما يتصف به البهائم والحيوان، ليس من شأنه سوى ما يلبس وما يأكل ويكسب، وليس في فكره سوى ما يتلقى من المعلومات ويلقى من الأخبار، ولا أظن ذلك يزيده قربا من شيء إلا قربًا من عالم الببغاوات.
وليس الخطر فيما تنتجه هذه البرامج وما شابهها، فما إنتاجها إلا من صناعة الانسان لتاريخ هذه البشرية وحضارتها وانتاجها العلمي والمعرفي، وإنما الخطر في استمراء الإنسان الخضوعَ والكسل، واستسلام النفس وابتعادها عن الجد والطلب، وما من شي أشد حلاوةً على النفس من الدعة والراحة، وما من شيٍء أشد صعوبةً على الانسان من مكابدة الطبائع ومغالبة الأهواء، ولا يزال العلم والتقدم محفوفًا بالبحث والتدبر، وما الجهل إلا محفوفًا بوجبات هذه البرامج وما يدور حولها. فالعقل إنما هو من عطايا الله العظام، ومواهبه الجسام، التي أنعم الله بها على البشرية، وبه يكون التأمل والتدبر، ومنه يستنير الإنسان سبيل الايمان، ويسير إلى طريق الرحمن، فهي مفتاح كل وسيلةٍ وغاية، وسر كل حقيقةٍ وآية، وما التأمل والتدبر للإنسان إلا كالذي يحمل في جوفه قلبين، يرى بالأول الكون فيدرك عظمة الخالق وحقيقة الوجود، ويرى بالآخر طريق العلم والحق فيدرك معنى الحكمة وسر السعادة والخلود، ولا يكون ذلك إلا بإعمال العقل.ولا أرى بحلول هذه البرامج إلا نكبة كبرى ألقت بظِلالها وحلَّت على الأمة، وليس التهاون في الصغائر إلا نداءً للكبائر واستدعاء لها، والمجتمعات التي لم تحصِّن فهمها وفكرها بالبحث والتدبر فقدت أسباب البقاء وتهافتت عليه التفاهات؛ فلا تدري بأيٍ منها تهلك ولا تدري بأي تفاهةٍ تموت، وما أشبه ما تنتجه هذه البرامج ومفسدتها لعقل الانسان بتلك المطاعم ومحلات البقالة ومأكولاتها الجاهزة المفسدة لبطنه، وأي شيء أكمل في دناءته وحقارته على الانسان من اجتماع المفسدتين، فساد العقل وفساد البطن.
والسعي المستميت في عالم اليوم لإنتاج ما ينافس العقل ما هي الا دعوة صريحة من الأنظمة المستبدة والأفكار الشيطانية لإخماد ثورته وتمكين غفلته، وزعزعة قدرته على البحث والتدبر وعلى الفهم والتفكر، ولا توجد دعوة في الأولين والآخرين لتعطيل العقل كدعوة اليوم وليس في ذلك الا ظلم في الحكم وجور على الإنسانية وسقوط مروع للهمة تفظي الى فساد الأخلاق والدين وطغيان الشر على الخير.وكل حركةٍ للمعرفة إنما هي حركةُ العقل، وكل بناء للعلم إنما هو شحذُ العقل، وكل تقدم وتطور إنما هو يقظةُ العقل، وما من شيٍء أحق بالحرية المطلقة من العقل، ولا أعلم سجنًا أشد ظلمًا وتعذيبًا على شيء من سجن العقل، ولا أعلم غفلةً أكثر خسرانًا من غفلة العقل، وأن العلم في زمانِ كثرته كان قليلًا فما بالنا في زمانِ قلته، وأن الجهل في زمانِ قلته كان كثيرًا فما بالنا في زمانِ كثرته، وما نحن إلا بين طريقين موحشين مجنونين ولا يزيدهما جنون التقنية، إلا طريقًا ثالثًا يقرب الوحشة إلينا.
وما إذ بدأ سباق التقنية وتكالبت البرامج والتطبيقات على مجتمعات الانسان وما تقدمه لهم الصالح الطالح، فمن يومئِذ غاب عن الناس معنى المعرفة، وخفى عليهم معنى العلم، إذ لا مبيِّن لمعانيها إلا التدبر والتأمل، ولا كاشف لمغازيها إلا السعي والبحث، ومع غياب ذلك غاب واختفى عن تراث الأدب المعاصر شيئًا من الإنتاج الأدبي الذي يستحق أن يذكر، أو أن ينافس ما جاء به الأدب والفكر منذ عقود، حيث أصبح البون شاسعًا والمسافة بعيدةً بعيدة.وإذ أن الأمر كذلك هل يستطيع فكر أصحاب التقنية ومستخدمي تطبيقاتها أن يفاخروا بكتاب أو إنتاج فكري حديث ينافس ويجد له مكانًا بين كتب المفكرين والأدباء الأوائل ولا يسقط، أو أن يأتي البحث الأدبي المعاصر بما يسد الفجوات البحثية وأشكالها فيما تقدم من آداب وعلوم ويثبت، وكأني أراها وهي تحاول ذلك تسقط مرةً بعد مرةٍ أمام ركلات كتب سيبويه وابن جني في اللغة، ثم تتهاوى وتسقط أمام صفعات كتب الجاحظ والمبرد وابن الأثير في الأدب، ثم تهوي وتتهاوى في القاع أمام لكمات مقالات الرافعي ورسائل شاكر في فنون البلاغة والتذوق.وإذا كان في ابتداء رسالة الإسلام ومنهاج القران بعثًا للعقل والتفكر، فليس في ابتداء هذه البرامج وشيوعها إلا بعثًا جديدا للجهل والتخلف، ولا يكون مع هذا البعث إلا السقوط المدوي للإنسانية ولمعاني الحياة، ومن سقوط الإنسانية أن تحل روبوتات الدردشة محل الانسان، وأعظم ما في هذا السقوط هو القبول لكل جديدٍ آت دون تمحيص وتدقيق، والانبهار بكل ما هو حديثٍ معاصر دون تشكيك وتفكيك، ظنًا من الأنظمة والمجتمعات المفتونة بحياة التقنية المتطورة، وحياة السرعة المتهورة، أنها المنجية من كل جهلٍ وسخافة، وأنها المنقذة من كل بلهٍ وتفاهة، هيهات هيهات!!لا يُراد من إنسان اليوم إلا السير في طريق تحفها القيود والشروط والتعليمات، التي يجب أن يحفظها حفظًا ولو لم يعي منها شيئًا، ولا يُراد منه سوى أن يكون كالببغاء يُردد ما تمليه عليه هذه الروبوتات، ويرى المقال أن هذا الحال واستمراره لا يعد إلا ضعفًا ممزقا لوجود العقل، وتحطيمًا مهدمًا للإنسانية، واسترسالٌ في الانهزام الفكري، الذي به توشك مجتمعات الانسان أن تتلاشي جوهرًا ومعنى، وتبقى رسمًا وشكلا.
قبح الله عصرًا تطبَّع الانسان فيه بطباع البهائم، وقبح الله عصرًا لا يعرف الانسان فيه معنى العقل، وقبح الله عصرا اتخذ أهله الــ AI إلهًا يُعبد، وقبح الله عصرًا اتخذ أصحابه الروبوتات خليلاتٍ وزوجات، وقبح الله عصرًا يجهل الانسان فيه جهلًا بالغا أن دعوى هذه التقنيات والروبوتات، ما هي إلا دعوى انحطاط الفكر، وانسلاخ الإنسان من انسانيته. ليت شعري متى سيزول الغبش عن وجه الأمة، وليت شعري متى سيرى الإنسان ببصيرته لا ببصره، ألا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على أولئك الذين أوجدوا في حياة البشرية ما يفسدها ويشقيها، ألا لعنة الله ثم لعنة الله على أولئك الذين أولدوا في تاريخ الإنسانية ما يشوهها ويفنيها.





