عِش بالخَيالِ
شعر : حمد الراشدي
مسقط
٢٩ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ – ٣ أكتوبر ٢٠٢٤ م
عِشْ بالخَيالِ كما تَشاءُ طبيبا
أوْ عاشِقاً أوْ حاذِقاً ونَجيبا
طَيْفُ الأحِبّةِ إذ يَزورُكَ حالِماً
يُعْطي السُّرورَ بأَنْ دَنَوْتَ قَريبا
مِنْهُ الذي تَهْوىٰ وتَرْجُو بِالمُنى
لوْ كانَ مِنْكَ إلى العُيونِ نَسيبا
سَرْحُ الفُؤادِ ولوْ بدا في مَهْمَهٍ
وبهِ الحبيبُ ، يُقَرِّبُ المَحْبوبا
وتراهُ في غَلَس الليالي كالضُّحى
فَيُزيلُ مِنْ ثِقَلِ الهُمومِ كَثيبا
أرَأيْتَ إذْ ذُقْتَ البِعادَ ومُرَّهُ
أبِغيْرِ ذا التِّذكارِ ذُقْتَ مَطيبا
سَفَرُ القُلوبِ وإنْ تَرامى بُعْدُهُ
إنْ كانَ لِلأحْبابِ باتَ نَقيبا
وكذا هِيَ الأجْسادُ في تِرْحالِها
تَزْدادُ بُرْءًا لِلْكَلالِ رَؤوبا
والبُرْءُ ذا مِنْ بُرْءِ عَيْنٍ عَلَّها
قِصَرُ النُّفوسِ عَنِ الحَراكِ دَبيبا
فَعَلامَ تَحْجُبُها ولا تَشْفي لها
شَغَفاً إلى سِعَةِ الفَضاءِ رَتيبا
فلقدْ نَظَرْتَ ، وليْسَ مِنْ نَظَرٍ صفا
إلاّ على صَفْوِ الفؤادِ حسيبا
هَمٌّ يُدَمْدِمُ في الضلوعِ فما لهُ
إلاَ التظاعُنُ والخروجُ مُذيبا
يومٌ قَضَيْتُ بِهِ الظِّعانَ بِمَرْبَعٍ
تحتَ الدُجَنَّةِ تُمْطِرُ الشّأْبوبا (١)
عِنْدَ ” السُّرورِ ” و ” نَفْعَ ” مِنها ” بُدْبُدٌ “(٢)
حيثُ السُّفوحُ تَمَيَّزَتْهُ رَحيبا
جَرَتِ المَسايلُ في الوِهادِ وطَهَّرَتْ
ما كانَ يَغْبُرُ صَخْرَةً وحَصيبا
وبها الرّوابي كُلُّ رُكْنٍ قد بدا
مُتَهَلِّلاً مُتَبسِّماً وقَشيبا
جادَ النَّسيمُ مُعّلَّلاً وغدا بهِ
دَوْحُ الأثايلِ بالغُصونِ طَروبا
مُتمايِلاً بالرِّيحِ في طَوْبائهِ
وكأنَّما بِالْكأْسِ عَبَّ نُخوبا
والأرضُ ثَمْلى بالرّبيعِ تَحَلَّيَتْ
في صَدْرِ أيْلولَ اسْتعارَ مَسيبا
طرَبَتْ على وَقْعٍ مِنَ المُزْنِ انْهَمَتْ
والوَدْقُ بَلُّورٌ وجادَ سُكوبا
حتّى إذا اكْتَسَيَتْ بياضاً ناصِعاً
سَجَدَ الجَمالُ تَشَكُّراً ووُجُوبا
ودعا الصّفارِدَ أنْ تُغادِرَ خِدْرَها (٣)
فَتَرى الرِّحابَ سواقياً وشُعوبا
وهناكَ مِنْ تحْتِ السُّمَيْراتِ انْبَرتْ
زُغَبٌ وأُمَّاتٌ تُريدُ دُروبا
والسَّيْلُ أنْدى ريشَها حتّى إذا –
ابْتَلَّتْ فتَنْفُضُ كَيْ تُزيحَ ضَريبا (٤)
وبَدَتْ ، وهِيْ تَتَعانقُ الأحضانَ ، في
فَرَحٍ بما حَلَّ الرّبوعَ مُثيبا
ومَضَتْ إلى الأجْزاعِ حيْثُ وُرودُها (٥)
، تَتَبادَلُ القُبلاتِ ، طِبْنَ شُروبا
ولها الصّفيرُ يبوحُ بُرْءَ غليلِها
فتَناوَبَتْها أغْدُراً وقَليبا (٦)
والماءُ حِينَ تَجِدْه بَعْدَ صِدايةٍ
كقميصِ يُوسفَ شافِياً يَعقوبا
ولَطالما نَغَماً أنِسْتُ صَفيرَها
” زِرْيابُ ” غافٍ إذْ يُجيبُ مُهيبا (٧)
أُصُلاً قَضَيْتُ وما انْتَهَيْتُ تَوَارِياً
لَحْنٌ تَهادىٰ في البِطاحِ عَذوبا
حَجَلٌ توانىٰ ، والتّواني ريبةٌ –
خَلْفَ الجَماعةِ – إنْ بدا محْسوبا
يَمْشي الهُوَيْنىٰ ثُمَّ يَلْوي ، بُرْهَةً ،
رأساً لهُ ، مُتَيَقِّظاً ورَقيبا
فَرَأيْتُ أنْ آتِيه إتْيَ مُسائلٍ
عنْ حالهِ ، فلقدْ حَدَسْتُ عَجيبا
يا ابْنَ القَطا إنّي أراكَ بِمَعْزِلٍ
والسِّرْبُ قَدْ بَلَغَ الجَباةَ مُجيبا (٨)
أهِيَ الأناةُ إذا يَحُزْها عاقِلٌ
أمْ أنَّ في الصّدْرِ الدَّفينِ نُدوبا ؟
نَفضَ الجناحيْنِ انْتِفاضةَ سامِعٍ
وأشارَ كَيْ أقْعِي الجُلوسَ قَريبا
وعَلا على حجَرٍ قبالةَ ناظِري
فيبُثُّ بالعَيْنيْنِ ، عاضَ خَطيبا
جِئتَ المكانَ دِيارَنا لِتَنزُّهٍ
ولقدْ سِعِدْتَ بما صَدَفْتَ صَيِيبا
أمَّا الذي أرْجو لتَعْرِفَ بُلْغَهُ
دَوْرُ الغرابِ وما جَنا تخْريبا
هٰذا الذي مِنْ صَوْبِ شَرْقٍ إذْ لفىٰ
جَعلَ المَعيشَةَ مَوقِداً ولهيبا
وغزا مراتعَنا وكُلَّ عُشُوشِنا
وقَضى على الأفْراخِ كَنَّ زُغوبا
ولقد تَكاثرَ واسْتزادَ نَهامةً
ولنا يُبيدُ وما اسْتَراحَ نَهيبا
أتَراكَ يا مَنْ إذْ تكونُ بصَفِّنا
أدْركْتَ كمْ شَقَّ الغُرابُ جُيوبا
ولقدْ صُبِحْنا والدِّيارُ مُشاعةً
ولقد مَسَينا والحِوارُ غَريبا
ولبُرْهَةٍ جادَ السّحابُ وإثْرَها
نَزَلَ الخطيبُ مُبَلّلاً ورَطيبا
وبخَفقَةٍ لِجناحِهِ اليُمْنى فَهِمْتُ –
يُريدُ مِنٍّي يَسْمَعُ التََعْقيبا
فَرأىٰ مَلامِحَ بالإجابةِ تَنْقري
وكأنَّ في لُغَةِ الكلامِ ذُنوبا
يا صاحِبي إنَّ الدّخيلَ دهاكُمُ
ودهىٰ لِمَنْ ألفىٰ بهِ مَجْلوبا
لكنْ مُصيبَتُنا رَضَيْناها لنا
وبما ظَننّا نافعاً ومُصيبا
فغدَتْ وَبالاً لا نُجوعَ بحالهِ
إلاّ السلامَ على الفَواتِ نَصيبا
وكمنْ تغمْغمَ بالكلامِ وقالهُ :
أنْتمُ الذي جَعلَ الزّمامَ مَسيبا
سلَّمْتُمُ كُلَّ المَخيطِ وخيْطَهُ
فَتَخَيَّروا التَّفْصيلَ جاءَ قَصيبا
وفَتحْتمُ الأبوابَ حتى تَرْتَخوا
وغدا الرّخاءُ كما اسْتَقَرَّ مَعيبا
شَرِّقْ وغَرِّبْ في المكانِ وطُولهِ
تَجِدِ المغانِمَ شَمْلةً وجُنوبا
لكنْ بأيْديهِمْ وليْس بِغيْرِها
مَنْ يَجْعَلُ الدُّولابَ دارَ ضُروبا
واذا على غَيْر الذي يَجْري تُرىٰ
فَهُمُ غَداً مَن يُحْكِموا التّرْتيبا
مَنْ يكْتُبُ التّاريخَ يَمْحو آنِفاً
سارتْ بهِ الرّكْبانُ كانَ مَهيبا
يالْويْلُ ، في كنَفِ الغُروبِ تراكمُ
إنْ أنْتُمُ أخْطأتُمُ المَحْسوبا
إذ أسْمعُ الجَرَسَ الوعيدَ بموْقِفي
فإذا بِرَفْرَفةٍ تَقِلُّ لَبيبا
ولِتَوِّها بَلَغَ اللقاءُ خِتامَهُ
أمّا السّخِيَّةُ لا تزالُ صَبوبا
حتى إذا الشَفَقُ البعيدُ تَلوَّنَتْ
آفاقُهُ غَمَرَ السُّهولَ طَنيبا
والْإذْنُ مِنْهُ بالرُّجوعِ على الرِّضا
ومَعَ الفؤادِ مَحَبَّةً ووَجيبا
١- الدّجنَّة : الظلام ، وهنا السّحابُ الأسود ، والشأبوب : المطر .
٢- بدبد وسرور ونفعا : مدنٌ وبلداتٌ بوادي سمائل
بالمنطقة الداخلية من عُمان .
٣- الصّفارِد : جمع صُفْرِد طائر من نوع الحجَل والقطا .
٤- الضريب : ما يتبقي على ظهر الطائر أو الحيوان من وَدَق أو ثلج .
٥- الأجزاع : نواحي الأودية .
٦- القليب : البئر غير العميقة .
٧- زرياب : من أشهر المغنين في العصر العباسي ،
والغاف : من أشجار الظل في الجزيرة العربية .
٨- الجباة : تجمعٌ للماء ، لغة من جابية .