زلنبــــــور..

بقلم د. اسحاق بن أحمد البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

همّني ما همّ الناس مما يدور بين الشاب والفتاة هذه الأيام، وما يدور بين الحبيب وحبيبته، وما أرادوه من تعد على محارم الله، بأخلاق توصل الفجور إلى قلوبهم، وأفعال توصل الخبث إلى نفوسهم،  فلا يكون اسم الحبيب وحبيبته مرتبطاً إلا بالخبث والفجور، ولا يكون اسم الشاب وخطيبته إلا مرتبطًا بالاختلاط، وما يصاحب الاختلاط بين الذكر والأنثى، فتختلط به أخلاق الرجولة على الرجل فلا يعرف شيئًا منها، وتختلط به صفات الأنوثه على الأنثى فلا تتصف بشيٍء منها، فتتدنس بها طباع النفس، وتموت من رائحتها معاني الروح، فلا يكون بينها وبين الطهارة إلا كما يكون بينها وبين إبليس.

فما أن بعث الله شيئًا من ذلك في فكري، اجتمع الكلام بين جنبي وجاءت المعاني مسرعةً إلى صدري، فقررت أن أتتبع الأمر وأستقصي الحوادث، وما جاء منها من مآسي الاختلاط، وما حل على الأمة من خبرها،  لعلي أقف على عتبة الحقيقة والإصلاح، وأرسل شيئًا من الألفاظ والمعاني تصل إلى القلوب والأرواح، فتبرأ بها ذمتي أمام فالق الإصباح، وتخلص بها روحي إلى شيءٍ من السجايا المحمدية، فقد عاش وليس في روحه أعظم من معاني الأخلاق، ومات وليس في حرصه أشد من وصيته للنساء، ويوم نلقاه وليس في دعائة إلا أمتي أمتي.

وحسب المرأة والرجل من لذة العيش قلبًا يخفق بالعفة، وروحٌ تتزين بالطهر، وأخلاق ليس فيها من رائحة الاختلاط شيئًا، وما رأيت حذرًا ولا حرصًا في ذلك أعظم من حذر وحرص أم أبيها (فاطمة الزهراء)، وهي في ساعات ما قبل الرحيل، ولحظات ما قبل الوداع، وفي أشد كرباتها، فلم تتذكر حينها إلا وهي محمولة على الأعناق، وكيف لها أن تكون في ستر وفي حفظ من أعين الرجال، فقالت لأسماء إني لأخشى أن أخرج غدًا على الرجال في وضح النهار وليس عليّ إلا الكفن!! (سبحان الله) هذا حالها وهي ميته فكيف وهي حية، ولا أعتقد أن الكلمات ومعاني اللغة تستطيع أن تصف معنىً مثل هذا، لكنها فاطمة سيدة النساء في الأرض وسيدتهم في السماء، وهل فاطمة الا الحياء!! وما الحياء لولا الزهراء.

وما إذ وجدت هذا وجد الحياء نفسه غريبًا وحيدًا ليس من أنيس له بين النساء، ولا حياة أو بقاءً له بين الأحياء، وما أضنه إلا أنه انتقل من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، ليجد له بذلك مكانًا يعيش فيه ويحيى ولو كان بين الأموات، فوحدها عِضة الموت تجعل في الأخلاق حياةً، ووحده الموت يجعل في الحياة أخلاقًا.

ألا تستحي نساء اليوم عندما يرين ويسمعن عن الحياء في عالم الأموات؟ ألا تستحي المرأة اليوم عندما تجد الحذر من الاختلاط عند الأموات؟ ألا تتحرك غيرة الرجل عندما يرى ويسمع عن الحياء عند أهل القبور والمقابر؟ ألا تتعظ عند الأحياء فطرتهم السوية عندما يجدون حذر الجثث والنعوش من الاختلاط وهي تسير إلى القبور؟ لماذا تُقبل الفتيات والنساء إقبالاً مجنونًا على الاختلاط كإقبال المغير على غارته؟ لماذا نرى طقوسًا وحياةً تبدلت حول الاختلاط ؟ لماذا تُخضع الطبيعة البشرية إخضاعًا وتدفع بالقوة لقبول الاختــــــلاط؟ فوا أسفي.. ووا أسفي..!!

لم يكن تعدد الأشياء وتنوعها في زمن من الأزمان أقسى على حياة الإنسان مما نجده اليوم، وما جاء به الاختلاط ليس ببعيد فقد تعدد وتنوع وأصبح له ضروبًا من الأشكال والألوان، وكأنها أتت من عالم إبليس ومن مجتمعات الشياطين، فهي وحدها من تستطيع أن تخترع مثل هذه الحيل، وتجيىء بمثل تلك الخدع، سيكون شيء منها ومن أشكالها في باقي السطور والجمل، واسأل الله أن يعينني في استدعاء الكلمات وما يحفز منها على اختلاط المعاني والألفاظ، وما يحبط منها على اختلاط الأخلاق والأعراض.

لم أكن يوما من أصحاب الاختلاط ومن مؤيديه ، ولم أكن يوما صاحب سر فيه، لكنني سألت عنها أصحابها من بني البشر فلم أجد مجيبًا خوفًا من اختلاط الأفكار، وسألت آخرين فلم أجد مستجيبًا خوفًا من فضائح الأخبار، ولم يبقى أحدًا إلا ذرية إبليس فهم وحدهم من يأتون بالأفكار ولا يترددون، وهم وحدهم من يأتون بالأخبار ولا يخجلون، فهم كالقنوات والمواقع اليوم قد انتشرت بخيرها وشرورها ، وكالصحف والمجلات بالأمس قد انطوت على أسرارها وحقائقها، وصدرت كما وضعت لا تستطيع أن تأتي الى القراء والنقاد من خبر نصف خبر، ولا شبه خبر، ولا تزويرًا أو تشويهًا على خبر.

وبتُ ذات ليلة وأنا مهموم القلب مشغول البال، قد أقضّ مضجعي حال الاختلاط وشأنه، وما حل على الأمة من حلاله وحرامه، وبعد أن فرغت من صلاتي وقراءتي، انتابني النعاس فكنت بين اليقظة والنوم، وما يكون في ذلك من تبدل الحال واستجابته، وحين تكون العين مثقلة والقلب لا يزال منتبهًا يتحول بين الأفكار ويتحمل ثقلها وهمها، فرأيت حينها صورة إبليس في زي شابٍ وسيمٍ، حسن الوجه، طيب الريح، يمشي مشية الواثق البطران، فكاد ان يشتبه علي لولا أني رأيت سيماه في وجهه، فإن سيما الفاسق الفاجر دلالةٌ عليه، وقد علم الله أن الفسق والفجور صفات النفس وأسراره، فجعل من ذلك علامات فيه واضحةٌ، وسيما منه فاضحةٌ.

جاء ابليس في صورة كأنه العفة المطلقة خُلقت بشرًا، فقلت له: عليك لعنة الله، رذيلةٌ في ثوب فضيلة!! فقال: ألأنك قد عرفت مني ما عرفت، وقد كشفت من سري ما كشفت، لك مني خبر فيه صدقٌ ليس لغيرك، ولك مني رسولُ سرٍ في الاختلاط ليس لغيرك، قلت له: عليك لعنة الله، ما أرى الصدق خلق إلا ردًا عليك، وما أرى الاختلاط جاء إلا منك. فقال: لكن هل للصدق حياةٌ لولا الكذب؟ فوحده الكذب من يجعل الصدق حيًا لا يموت، وهل للعفة والطهر حياةٌ لولا الاختلاط؟ فوحده الاختلاط من يجعل من العفة حياةٌ ومن الطهر حياه، وهل عُرفت الفضيلة لولا الرذيلة؟ وهل عُرفت الطاعة لولا المعصية؟ قلت له فلسفة شيطان.. فلسفة شيطان، كل إناء بما فيه ينضح، عليك من الله لعناتٍ ولعنات، ائتني بما وعدت وائتني بزلنبور، وما أن وصل زلنبور دار بيني وبينه هذا الحوار.

قلت: عليك وعلى أبوك لعنة الله، كيف وجدت حقيقة الاختلاط ؟ قال زلنبور: والله يا أباعزام، ما صدقت في حياتي إلا كذبًا، ولا كذبت في حياتي إلا صدقًا، لكنني اليوم لا أجد معك وأنت أنت، شيئًا من الصدق والكذب إلا أخبر كل واحدٍ منهما عن صاحبه، وأفشى سره، ثم قال: هل ترى يا أبا عزام غفر الله لك، أغرب وأعجب الى الاستخفاف والسخرية اليوم من أولئك النساء والفتيات اللاتي لا يخلو أمرهن من حالين، الأولى تلك المتحجبة شكلاً السافرة روحًا وعقلاً، فأين تجد مثل هذه توازنًا أو رفضًا للاختلاط، فهي صاحبة الأسواق والتجمعات، والثانية السافرة شكلاً والمتعففة روحًا وعقلاً، فأين يكون لمثل هذه إنصافا للاختلاط،  فهي صديقة الأعراس والحفلات، فهم بذلك في التناقض وحول الاضطراب، فلا أحتاج جهدًا عليهم، ولا سعيًا إليهم.

قلت: عليك لعنة الله، وماذا بعد، قال زلنبور: يا أبا عزام، هل وجدت أغرب وأعجب إلى الاستخفاف والسخرية من أولئك الرجال الذين يمشون في الأسواق خلف أزواجهن اللاتي تزيّنَّ وتلونَّ، وبدت كل واحدةٍ منهن وكأنها لوحةٌ فنيةُ إلا أنها تسير على أرجل، وما يزيد دور أحدهم من حمل الأكياس والأمتعة، يميل برأسه أينما مالت، يتلفت يمنة ويسرة، خوفًا من سرقات الأنظار، فهو يرى في ثيابها ولباسها قصائد الفحش وروايات الغرام، وتفصيلاً عن أعضائها وكأن في كل قطعةٍ من لباسها معنىً يحرك العيون والشهوات، وتقول هذه، هذا أنا.. وتقول تلك، هذه أنا.. وما على العيون إلا أن تتتبّع، وما على الشهوات إلا أن تَتبع، وما عليّ أنا إلا أن أصفق وأصفق.

قلت: عليك من الله لعنات ولعنات، وماذا بعد، قال زلنبور: يا أبا عزام لقد جادلتني وأكثرت جدالي، وما أنا إلا دليل الأسواق والمحلات، ودال للعيون والنظرات على مواطن الجمال ومحاسن الأجساد، فهل من جرم في هذا؟ قلت: لعنك الله وهل الجريمة إلا أنت!! وهل أنت إلا الذنب والمعصية!! لكن دلني يا زلنبور على شيء من الاختلاط الحديث والمعاصر وما يجري بين الذكر والأنثى؟ قال زلنبور: يا أبا عزام، هل رأيت أغرب وأعجب مما يسمى اليوم بفترات التعارف قبل الزواج، وما يكون فيها من قصص وحكايات بين الشاب والفتاة، على مرأى من الأباء والامهات، فأول ما يقوم به الشاب المهذب هو أهداء الفتاة المتعلمة أحدث إصدار من الهواتف الذكية، ورقمه الدليل عليه، تحت تصفيق واحتفالات العائلة وكأنه يقول علنًا هذا اذنُ الدخول على الاختلاط، وليكن بعدها ما يكون من مخاضٍ لهتك العرض والستر، وولادةٍ سهلةٍ ميسرةٍ للفحش والزنا.      

قال زلنبور: وفي الجانب الموازي من الاختلاط المعاصر الحديث، ما نجد اليوم من السخف والسخافات لأشكال الاختلاط في المقاهي والكافيهات، وما أن تختلط أكواب القهوة بين الذكور والاناث تختلط معها النظرة والنظرات، والغمزة والغمزات، وما أن يشربونها يشربون معها فساد الأخلاق والدين، ويشربون معها شيئا من ريق ابليس، فلا تجد النساء بعد ذلك طعمًا في الحياء، ولا يجد الرجال بعد ذلك ذائقة في الغيرة، ولا يجدون هم جميعًا بعد ذلك شيئا من فطرة الإنسان، فيجتمعون في كل شيء اجتماع الحيوان، وينظرون إلى كل شيء بعد ذلك نظرة البهائم والعميان، فما أن سمعت منه ذلك غضبت عليه غضبًا شديدًا، فأخذته من رأسه ولحيته، وانتبهت وليس في يديّ سوى رائحة الاختلاط.

إن ما جاءت به البرامج التليفزيونية المستنسخة من أشكال الاختلاط المعلنة الصريحة تشيب منها الولدان، يجري في غرفها ما يجري من قصص إبليس وروايات الشياطين، تحت شعارات تنمية مهارات الاختلاط بين الذكور والاناث، يجد كل شيء معها الحياة إلا الإنسان، فلا شيء يجسد معاني الاختلاط أكثر منها فهي قمة الإبداع وذروة الخداع، فالجميع فيها مشترِك والكل فيها معترِك، وإذا كان الذكر والأنثى قد أمسكوا بطرف الاختلاط والمجاهرة به، فقد أمسك المشاهدون والمشاهدات بطرفه الآخر، وإذا كان هؤلاء سقطوا من بعض أخلاقهم، فقد انسلخ أولئك من الأخلاق كلها.

وفي الأخير علينا أن ندرك أن الاختلاط ثورةُ ومهزلة، وأنه ظلمةُ وزلزلة؛ وقعت بين رجالٍ ونساءٍ لا يعدو شأنهم إلا من أمرين، إما التصفيق وإما التصفيق، أفبلأولى تخمد ثورته، أم بالثانية تثبت زلزلته؟! وعلينا أن نعي أن للاختلاط حركة جبارة، وإعصارًا مدمرًا، لا تهدأ معه الأسئلة، ولا يستريح معه الفكر، فهل احتذى الشباب والبنات حذو الغرب في الاختلاط اليوم، أم أن الشرق تجاوز الحد وأصبح ممن يحتذى بهم؟ وهل من غيرةٍ باقية، أو نخوةٍ منجية، تدافع عن الاخلاق، وتدفع الاختلاط؟ أم أنها الجاهلية بعثت من جديد؟ أسأل الله أن يكرمني برؤيا زلنبور ثانية، فوحده من يجيب عن الأسئلة، ووحده زلنبور الصدوق الكذوب!! 

زر الذهاب إلى الأعلى