متحف عُمان عبر الزمان: حيث يحكي الصمت تاريخ الأرض

سيلينا السعيد
كاتبة لبنانية

في كل بقعة من الأرض، هناك أماكن تتحدث بلغة لا تُسمع ولكن تُحس. أماكن تحفظ الزمن في طياتها، كأنها ذاكرة حجرية لماضٍ لا يندثر. متحف عُمان عبر الزمان هو أحد هذه الأماكن، ليس مجرد جدران تحتضن مقتنيات أو قاعات تصف أحداثًا، بل هو شهادة حية على مرور الزمن فوق هذه الأرض، على العابرين الذين تركوا بصماتهم بين رمالها، وعلى الحضارات التي التقت عند سواحلها، مثل موجة تتبع أخرى، تاركة أثرًا قبل أن تنسحب في هدوء.

ذاكرة الأرض والإنسان

في داخل المتحف، تسير بين الأروقة كأنك تعبر دهاليز الزمن، تعبر من العصر الحجري إلى أمجاد اللبان، من السفن التي شقت المحيط إلى الأسواق التي حملت صخب التجار وروائح البهارات، من قلاع شامخة إلى مدن تنبض بالحياة الحديثة. كل زاوية تهمس بقصة، كل قطعة أثرية هي سطر في ملحمة طويلة كتبها الإنسان العماني بصبر الصيادين، بحكمة التجار، وبشجاعة الملاحين.

ما الذي يجعلنا نقف أمام قطعة خزفية مكسورة، أو أمام نقش حجري باهت، ونتأملها بصمت؟ ربما لأننا ندرك أنها كانت جزءًا من حياة أحدهم، ربما أمسَكَ بها شخص عاش قبلنا بمئات السنين، ربما حملت فرحًا أو خيبة، كانت شاهدة على زمن لم يكن يعرفنا ولكننا نحاول أن نفهمه.

التاريخ ليس ماضيًا بل حضورٌ ممتد

أحد أعظم الأوهام التي تلازمنا أننا نرى التاريخ كشيء انتهى، وكأن الأمس قد مات وانقطع عن الحاضر. لكن في متحف عُمان عبر الزمان، تدرك أن الماضي لم ينتهِ، بل هو حاضرٌ ممتدٌ فينا، ينساب في اللغة التي نتحدث بها، في العادات التي نحملها، في الشوارع التي نمشي عليها، وحتى في ملامحنا التي تحمل آثار أجيال مضت.

كل حجر في عُمان، كل شجرة، كل اسم لمكان، هو حكاية تعود إلى زمن ما، إلى إنسان ما. المتحف ليس مجرد سردٍ للأحداث، بل هو محاولة لربط هذا الامتداد الزمني داخل وعينا، لإيقاظ شعور بأننا لسنا منفصلين عن من سبقونا، بل نحن جزء من نهر طويل من الحياة والتجربة.

رحلة في الوعي

أن تزور المتحف هو أن تدخل في تجربة وجدانية عميقة، لا تقتصر على مشاهدة المقتنيات بل على الاستماع إلى نبض الزمن. هنا تقف أمام نموذج لمدينة قديمة وتدرك كم تشابهت الطموحات رغم اختلاف الأزمنة، هنا ترى وثيقة بحرية فتشعر بالرياح التي دفعت الأشرعة نحو المجهول، هنا تسمع وقع خطواتك على الأرض ذاتها التي عبرها الأجداد.

هناك جمال خاص في التأمل في هذه الحكايات، في إدراك أن ما نعتبره عاديًا اليوم، سيكون يومًا ما مادة للدهشة والتأمل لمن يأتي بعدنا. ربما ستكون بقايا مدننا يومًا في متحف آخر، وربما سيحاول أحفادنا فك شفرة رسائلنا، كما نحاول نحن اليوم أن نفهم رسائل القدماء المنحوتة على الصخر.

المتحف كمرآة للذات

في نهاية التجوال، تجد نفسك أمام سؤال لا مفر منه: أين نحن من هذا الزمن الممتد؟ كيف سيكون أثرنا؟ المتحف ليس مجرد رحلة في الماضي، بل هو مرآة تعكس وعينا بالحاضر وتدعونا إلى التساؤل عن المستقبل.

في هذا المكان، يلتقي الإنسان بظل أسلافه، ويسمع صوت الذين مضوا في نسيج الحكايات، فيبتسم بحكمة العابرين، ويدرك أن الزمن ليس عدوًا، بل هو رفيق يحمل معه أسرار البقاء والتجدد.

زر الذهاب إلى الأعلى