‏عند قبر السلطان سعيد بن تيمور في “بروكوود” أستعيد مرثاة صقر قريش لنخلة تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي ‏

‏من المفارقات سيدي أنني لم أَرَكَ في حياتك ، وهأنذا أتحسُّس الرخامة الباردة لقبرك في “بروكوود”، بينما شرُفت برؤية ومصافحة الطيِّب الذكر قابوس ولم أزر مضجعه الشريف في مقبرة العائلة المالكة الكريمة في بوشر. ‏لكنني رأيت صوركَ سيدي في المرايا المجلوبة من الهند تتوسط نخلتين. ‏ورأيتك على أغلفة الكراريس في المدرسة السعيدية. ‏ورأيتك سيدي في أحاديث أبي عنك. ‏وفي هيبتك إذا ذُكِرْتَ في محفل. ‏وفي “بنديرتك” الحمراء على سارية بيت العَلَم والمدرسة السعيدية وعلى الحصون الداخلة في جغرافية دولتك. ‏ورأيتك في سِلْمك وحربك. ‏وفي صحف ومجلات وإذاعات أصدقائك وخصومك. ‏ورأيتك سيدي في بشارات النفط وأنت تتحدث عن حقول “فهود” وعن ميناء التصدير في “سيح المالح” وعن مشاريع بدأت بها ، ومشاريع وعدتَ بها فشاءت الأقدار أن تنفذ بعدك. ‏ورأيتك في قوَّة الريال السعيدي المغطى بالذهب والذي يتنافس عليه صيارفة “كوينزواي” و”إدجواررود” منذ صدوره في الهزيع الأخير من عهدك. ‏ويوم هممتُ بزيارتك ساءلتُُ من زار “بروكوود” قبلي عن موقعك حيث ترقد بسلام وبجوارك السيدة الجليلة أميمة كريمتك فكانوا يقدمون عناوين بحاجة للبحث عن عناوين ، فالمقبرة بين المقابر الأكبر في أوروبا ، والحيز الذي يشغله المسلمون هو الأكبر في العالم. ‏لكنني سرت إلى “بروكوود” بهديٍ من بوصلة الوجدان فتحدَّدَ الموقع بمنتهى الدقة. ‏وقد اشارت تذكرة القطار إلى المنصة رقم ١٣ وهو الرقم الشؤم لدى الانجليز لكننا نُهِينا عن التطيُّر فلا وزن لخزعبلات تصنيف الأرقام. ‏وها هو القطار “ساوث ويسترن” يسرع بي ومازن وسالم من المنصة رقم ١٣ بمحطة واترلو الشامخة على الضفة الجنوبية للتايمز مارَّا بسبع عشرة محطة أبرزها ويمبلدون حتي يصل بروكوود بعد أربعين دقيقة من رحلة آسرة عبر مرج أخضر لولا الشعور بالانقباض الذي يفرضه الحديث عن الراحلين. ‏نصل “بروكوود” والجزء الخاص بمدافن موتى المسلمين لا يفصله عن محطة قطارات “بروكوود” سوى الباب الحديدي للمحطة وممر من الأدمع. ‏أمشي رفقة نجلي مازن وسالم في حديقة “بروكوود” ولا أقول مقبرة بروكوود. ‏فهل سمعتم عن مقبرة تتخللها البحيرات وتغزلها أسراب البط إلى جانب قنوات يطفو على زرقتها الورد وزنابق الماء. ‏وهل مرتْ بخواطركم مقابر يرتفع فيها شجر السرو وترتع فيها الغزلان وكأنها جاءت زائرة لأسلاف لها رحلوا فتقترب من ندامى المكان لتتوسلهم بأن يدلُّوها عن مضاجع الأحبة. ‏هاهو مضجعك سيدي وفق بوصلة الوجدان على بعد ٢٠٠ متر من الباب الجانبي للمحطة ، ولأكثر من ٤٠٠ متر من الباب الرئيسي للمقبرة وقد اعتليتَ ربوة على يمين الماشي في المسار الرئيسي ل”بروكوود”. ‏ولأن الشواهد ذات الرخامات السوداء في “بروكوود” كثيرة ومتشابهة فقد توجهت الأبصار والأفئدة نحو الخنجر والسيفين على شاهد قبرك وهو شعارك وشعار السلف والخلف من الأسرة البوسعيدية الشامخة فأغنانا عن قراءة الاسم وهرولنا في المشي. ‏وحين اقتربنا تأدبنا إجلالا للموت ولمقامك فهيبتك عابرة للأزمنة. ‏نسلِّم عليك كما أُمِرْنا بدخول مقابر المسلمين ونتلو الفاتحة وندعو بما تيسر. ‏أستعيد الشجر السامق خلف شاهدك وقت زيارة معالي الأستاذ حفيظ الغساني لمرقدك وقد احْتطبه الزمان ، فالشجر الذي يظلل الموتى له آجاله كآجالنا. ‏إلا إن شجر سرو أفضل منه ارتفع في عنان السماء بما يليق بك. ‏إنها حديقة وليست مقبرة ولذلك صنفتها بريطانيا في المرتبة الأولى في سجل الحدائق والمتنزهات ، ومع ذلك تمنيت سيدي لو كنتَ في مقبرة العائلة المالكة بمسقط ، فأرض العرب ألْيق بالنخلة التي أسالتْ غربتها أدمع صقر قريش.‏وتمنيتُ سيدي لو تفيأت ظل نخلة جوز الهند في صلالة التي عشقْتها فتستسقي الخريف إلى الخريف بما يباهي مطر “بروكوود”. ‏أتحسس رخامة قبرك سيدي وهي باردة رغم زمنك المشتعل. ‏والرخامة سوداء رغم أن الكثير من المساحات البيضاء في عهدك وعلى رأسها إنك الأب لقابوس الخالد فينا. ‏وأنك أعددته بما يليق لينهض بعمان. ‏وأختم بما بدأت ، فقد زرتك في رقدتك الآمنة المطمئنه ولم أرك في حياتك. ‏ وصافحت قابوس الخالد مرارا ولم أزره حيث يستريح تحت غمامة في بوشر. ‏وفيما القظار “ساوث ويسترن” يعيدني ومن معي إلى “واترلو” تلهيت بقصيدة صقر قريش لتتآكل المسافات:‏تبدَّتْ لنا وسْطَ الرُّصافة نخلةٌ ‏تناءتْ بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ‏فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى ‏وطولِ الـتَّنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي‏نشأتِ بأرض أنتِ فيها غريبةٌ ‏فمثلُكِ في الإقصاءِ والمُنْتأى مثلي‏سقتكِ غوادي المُزْن من صَوبها الذي ‏يسِحُّ وتستمري السِّماكَين بالوَبل‏——————————-

‏لندن في ٢٢يونيو ٢٠٢٥م.

زر الذهاب إلى الأعلى