العائد من خرائط الوجع حيث تشابهت كلّ البلاد فلا أرى نفسي هناك ولا هنا

حمود السيابي


حمود بن سالم السيابي
لا بد وأن تضغطَ على قلبك وأنت تخرج من مطار “سوفارنابومي” باتجاه وسط بانكوك فالوجوه التي أغمضتْ عينيها على أسرَّة مستشفيات عاصمة مملكة “سيام” تطل فجأة من مرايا السيّارات المضبَّبة بالمطر لتنكأ الجراح.
ورغم مضيِّ ردح من الدهر على رحيل بعضهم إلا أن “نشَّافات” مرايا السيارات لم تنجح في محو وجع الاطلالات مع كل زيارة لبلاد الأَرُزِّ والفيلة والفواكه الاستوائية.
وبين وجوه غيَّبها الموت ولن نراها أبداً ، إلى وجوه غادرتْ الشراشف البيضاء وعادتْ إلى الوطن تحمل “صوغات” وضحكات وحكايا وعوداً ملكيَّا من “ديدي” وحطب بخور من “أمينة” وقوارير عطر لخلطات من “أندي” وبريقاً كاذبا للنسخ المقلدة لساعات الرولكس والباتك فيليب والشوبارد من “فريدة علي” وهي ما تزال على حنينها للوجوه الباسمة لأطباء بانكوك ورائحة المستشفيات.
كان الوقت فجراً ساعة حطَّتْ بنا الطائرة على مدرَّج “سوفارنابومي” وبانكوك ما تزال ناعسة.
والشمس لم ترسل اصفرارها بعد إلى الطوابق العليا لتغسل أهداب المدينة من السهاد.
وكان علينا قطْع ثلاثين كيلومترا من المسافة المتبقية إلى وسط المدينة ، وستطويها السيارة في غضون نصف ساعة فدروب بانكوك لم تستيقظ بعد لتتباطأ المشاوير.
ووحدهم الأحبة الذي غيبهم الموت يطيلون الدروب بتذكِّرهم ويكدِّرون رونق المدن ، ويحيلون كلَّ بياض نطالعه بما فيه الغيم إلى بياض الأكفان.
بينما الفرح بالشفاء يعاكس كل ذلك فتتقارب الأطوال والأبعاد والمسافات والأزمان.
وتبدو المدن عذبة كالحلم ، ويتألق المطر وضوءاً لصلاة العيد.
وتحت هذا الاضطراب من المشاعر المتداخلة مشيتُ والابن الفيصل خطوات كُتِبَتْ باتجاه مستشفى “بمبنجراد” حيث فجعنا في غرفه وأسرّته وردهاته بمن نعرفهم ، وفرحنا فيه بشفاء من نعرف ومن لا نعرف.
هذا هو المستشفى الأمريكي كما يعرفه الخليجيون أو “بمبنجراد” كما تشير اللافتات على مداخل مبانيه الثلاثة.
نصعده ببعض من الرهبة وبالكثير من الأطياف المرفرفة والأرواح الهائمة.
هذه غرفة أخي الناصر المحرر السابق بدائرة الأخبار بالإذاعة وقد رقد على هذا السرير ذات مراودة للمكان ومعه أحلامه في المشي دونما حاجة للحذاء الطبي الضخم الأشبه بأحذية حراس مرمى الهوكي.
لقد الْتَهَمَ السُّكَّر إبهام القدم اليمنى ، وكان مستشفى النهضة على وشك اللجوء للبتر كآخر الخيارات في وجه الغرغرينا التي كشَّرتْ عن أنياب التمدد.
إلا أن “بمبنجراد” نجح في تفتيح المسام وإنعاش الخلايا المعطوبة لتستعيد أطرافه دورتها الدموية.
ولكن من ينعش البنكرياس وبقايا البدن الضعيف الذي تداعى ؟.
لقد عاد ناصر إلى الوطن ليستأنف أسوار العزلة على سرير والده فيتسحَّب رويدا رويدا ليرحل بسلام إلا من عيني أمه وقلبها النازف.
وهنا في هذا الطابق بردهاته اللامعة تقشّعَ سيدنا السعيد بن خلف الخروصي متكئا على رجله الثالثة ، فيقابله التايلنديون بمزيد من الانحناءات وذلك استحقاقه فقد انحاز سيدنا السعيد إلى أطباء الشرق ، ورأى في دماثة خلقهم الكثير من الطمأنينة التي يحتاجها المريض.
وهنا كانت أم يعقوب تلك الصابرة التي جاءتْ بهمَّة “ولد المُجَبِّر” ورياحين “الحجامية” ليستسلم البدن الضعيف للمشارط التي صالتْ وجالتْ ولكنها تحمَّلت لأجل أن تنعم بما تبقى من العمر بلا ألم.
وذات ليلة وهي في نزوى وكان “الوقت” رمضانا بتجلياته التي تضيئ البلدة الطاهرة اشتاقت أم يعقوب لسيدها فاضطجعت بجواره في مقبرة الأئمة بنزوى وهي ما تزال تستذكر الوجوه التايلندية التي تشرق قبل كل صبح وتنحني للمرضى الفقراء قبل الأغنياء وبالكثير من السمو والصدق والنبل.
أما ذاك فهو سرير سيدة الصعبتين وقد ذبل الياسمين على الوسائد فعاد المرافقون لها وبأيديهم جواز سفرها لينتحب بختم الوصول ، فللجثامين محرراتها الورقية.
وهذه الغرفة رقم ١١٢٧ هي “سبلة بمبرنجاد” التي تتراسل طوال النهار مع سبلة العوابي.
أطل عليها والقصائد ما تزال ثريات السقف وطلاء الحيطان.
كان هنا حفيد الشيخ جاعد شيخنا العلامة مهنا بن خلفان الخروصي.
وكان سحر الضاد يكسر مقامات اللغة التايلندية “تاي كاداي”.
وما يزال أبو محمود في سبلته بالعوابي والمفتوحة برحابة مع المحيط الواسع يتجرع أدوية “بمبرنجراد”.
وهنا في هذه الردهات مرَّتْ حفيدة العلامة الشيخ خلفان بن جميل السيابي من غرفة الفحص إلى غرفة الرنين المغناطيسي
ومن جلسات “الكيمو” إلى استشراف زجاج نوافذ الغرفة حيث نخيل “المشجوعية” في الفيحاء البعيدة وشجر الأمباء في الرميس ، لعل في شجر العمر وريقات لم تسقط وأمنيات بمواسم التزهير.
لقد عادت حفيدة ابن جميِّل بأمنية سقي شجر الأمباء والتَّلهِّي بالدواء قبل أن تخسر الرِّهان مع السرطان.
وهذه غرفة نهر دربات سالم علي سعيد وقد جاء إلى عاصمة سيام جالساً على مقعد “البزنس” بمصره وكامل أناقته ، والمضيفة الآسيوية تمد إليه ابتسامة وحبَّة تمر فرض وفنجان قهوة ، وحوله العشاق الذين يمطرونه بطلبات التصوير معه للذكرى وقد عاد “والالم ماطاع ينزاح” ليتلفَّع الخريف الأحزان وتتصرَّم مواسم الصرب.
هنا التقيتُ ذات جرح الإذاعي الكبير يعقوب بن يوسف الزدجالي فالتُقِطَتْ لنا صورة أطالعها بين حين وآخر لأنزف معها فيتخثر طلاء أمكنة مشيناها.
وهنا وهنا وهنا بين حزن في مستشفى “بمبنجراد” وفرح في “ويشتاني” ومعنويات عالية في “سوخومفيت” ويأس في “برارام ٩” ورنين أجراس الأحد في مستشفى “سانت لويس” الكاثوليكي غير الربحي
وأنين العظام لتداعيات الجلطات في مستشفى “يانهي”.
ولم تكن المستشفات التايلندية وحدها من ينكأ الجرح بل سيام كلها تضاريس وجع لا يخفتْ.
وبانكوك كلها تومض بلقاءات الصدف التي لا تعترف بضرب المواعيد.
وكل المحاججات حول المشهد العلاجي العام تخترق حيطان المستشفيات لتكون حديث الناس في تايلند بفنادقها ومطاعمها ومقاهيها وأسواقها ومولاتها وسككها.
ولا تبتعد كل الحكايات عن مستفيدٍ من العلاج فيرفع بانكوك إلى السماء ، ومنكسرٍ آيسه الأطباء فيقلل من هستيريا الركض إلى تايلند ليرفع لافتات بضرورة التفكير بالسفير لوجهات جديدة على خرائط الوجع.
ولربما يحتكم المزاج العام حول الأطباء والممرضين لحسابات الحقل والبيدر ولنفس نظرة مشجعي المباريات مع الفارق أزاء مدربي المنتخبات وحكام الكرة عقب كل مباراة.
ففي حالة الفوز ستمطر الجماهير المدرب بأرفع الألقاب على حرفيته العالية في انتقاء التشكيلة والتبديل الممنهج للاعبين ، وتثني الجماهير على مستوى التحكيم الذي اتسم بالنزاهة طوال الدقائق التسعين.
أما في حالة الخسارة فإن ذات الأصوات ستتعالى لتطالب بإقالة المدرب فوراً والتهديد بالشكوى إلى الفيفاء لسوء التحكيم.
والحال نفسه مع الأطباء ، الذين سينالون رضا الموجوعين إن نجحوا وسخطهم إذا لميكتب لهم الشفاء.
وفي تحليل لسعادة السفير عيسى بن عبدالله العلوي سفير سلطنة عمان المعتمد في تايلند حول المشهد العلاجي بين الداخل العماني والخارج يرى :
“أن بعض دوافع العلاج في الخارج نفسية”.
و”أنها تغذّتْ بما يطال الأسماع عن المستويات المتقدمة للعلاج في الخارج ”.
ولا ينبع هذا التحليل من مجرد انطباع عابر لسعادته بل هو خلاصة ثلاثة عقود أمضاها سعادته كرئيس لمكتب وزير الصحة ، وطاف مع وزراء الصحة الذين تعاقبوا على الموقع بالعديد من الدول وانفتح على تجاربها.
كما حضر سعادته مع وزراء الصحة العديد من المؤتمرات والملتقيات الطبية.
وينبع هذا التحليل من عالم متخصص بجودة المستشفيات وبمعرفة بالأطباء وبالتطور الذي يشهده الطب عبر العالم كونه دخل السلك الدبلوماسي من خلفية وزارة الصحة.
وكان من موقعه المتقدم على دراية بمفاصل الوزارة وبدائرة صنع القرار الصحي.
ومع ذلك لا يعمِّم سعادته فيقرُّ بوجود العديد من الخبرات الطبية ذات السجل التاريخي الطويل الجاذب للمرضى ، ولها الفضل في بناء سمعة للطبيب وللمستشفى بل وللبلد”.
إلا أن المستشفيات الحكومية في عمان وتايلند وغيرهما من البلدان في تحليل سعادته “تتشابه في التحديات الناتجة عن الضغط الجماهيري عليها كونها توفر خدمات علاجية مجانية”.
ويرى سعادة السفير :
“إن ما يعتبره المواطن مشكلة محلية خاصة بمستشفيات بلده هي في الحقيقة ظاهرة عالمية تعرفها كافة المستشفيات الحكومية حول العالم بما فيها تايلند.
و”لها ذات الشكاوى المتكررة كالتباعد في المواعيد التي تحددها العيادات والبقاء الطويل في قوائم الانتظار لإجراء العمليات”.
كما يتجه تحليل سعادة السفير إلى “التقارب الكبير في المستشفيات الخاصة أيضا حول العالم مع بعض الفوارق من حيث الخدمات العلاجية والتجهيزات العالية جودة وكلفة”.
ورغم أن سعادته قد ترك القطاع الصحي منذ فترة ومع ذلك وبدوافع وطنية يثمن الجهد الحكومي المبذول فيه.
ويدلل سعادته عمليا :
“بأن أحدهم خضع لعمليتين جراحيتين معقدتين في الظهر في مستشفى خولة وتكللتا بالنجاح”.
و”أن نفس الشخص الذي ذكره سعادته ذهب إلى بريطانيا ومعه تقرير العمليتين ليعرضه على طبيب إنجليزي معروف بهدف الاطمئنان ، فثمن ذلك الطبيب الإنجليزي عاليا المستوى الرفيع للطبيب الذي أجرى العمليتين في المستشفى العماني”.
وننتقل مع سعادة عيسى بن عبدالله العلوي من تحليله للمشهد العلاجي الأممي إلى ثرائه الموسوعي عن الشرق بشكل عام وعن تايلند بشكل خاص فسعادته أول سفير عماني ينفتح على المحيط التايلندي عبر اللغة التايلندية التي يجيدها بطلاقة رغم صعوبة مخارجها النغمية القادمة من الحضارات الصينية القديمة كونها ضمن المجموعات اللغوية “تاي كاداي” ذات الصلة بلغة “الأوسترواسياتية” السائدة قديما في جنوب الصين” حسب “جوجل”.
وساعة شرفتُ بلقاء سعادته في الطابق السابع عشر من مبنى “مركيور” في “سكومفيت ١١” بصحبة سمو السيد محمد بن سالم بن علي آل سعيد وإبني الفيصل والمشايخ أعضاء السفارة ، هنأتُ سعادته على الكلمة التي ارتجلها بلغة “تاي كاداي” ووجهها للأمة التايلندية بمناسبة رأس السنة “سونغكران” ونشرها سعادته في صفحة السفارة “بالتويتر “وتناقلتها “الجروبات” في عمان.
وكنتُ بأشد الحاجة لذلك اللقاء الذي اقْتُطِع من الجدول المزحوم لسعادته لكي أفهم المشهد التايلندي بعيون من خبروه بعمق.
استقبلنا سعادته فيما سميته بالسبلة العمانية في تايلند والمعلقة في أفق العاصمة السيامية بإطلالتها على حيوية البلدة وروحها وتطلعاتها في أقاصي الشرق البعيد.
دخلنا مع سعادته السبلة وقد تصدرتها صورتان كبيرتان للسلطان الخالد الذكر ومولانا الهيثم المعظم.
وازدانت القاعة بساريتين للعلم الأغلى وعلم تايلند.
وفي ظل الصورتين الشامختين والبيرقين العماني والتايلندي تدافع الحديث ليبدأ بعمان ولا ينتهي.
وتخللته الكثير من الفواصل الثرية حول سيام المملكة والتاريخ والسياسة والثقافة.
ثم نقلنا سيد السبلة العمانية إلى شرفة المبنى في زفة من أريج النباتات العطرية وموسيقى “السوكومفيت” التي تعزفها الريح وحفيف الشجر وحبيبات المطر لنقرأ في رغوة استكانات شراب الزعتر وجوه الأحبة من جديد.
ومع آخر رشفة من ثمالات الزعتر أو السعتر كما نسميه في عمان ركبنا جمل الليل الذي خبَّ بنا باتجاه مناخنا بجوار “النانا رود” حيث لا تغمض بانكوك عينيها حتى الهزيع الأخير من الليل.
وكان موعدنا في الصباح مع الطبيب الذي أطلق عليه الخليجيون اسم حسن وهو حسن الوجه والخُلُق.
وداخل عزلة جهاز أشعة الرنين المغناطيسي وأصواته المزعجة لمعتْ من جديد وجوه من مرُّوا هنا.
ورقدوا وتوجعوا هنا.
ومن عادوا في الجزء السفلي من الطائرة مع الحقائب بينما جوازاتهم تنتحب في أيدي رفقاء الدرب والحزن.
وقد عدتُ بحمد الله ومعي نزيف نزار قباني :
“وتشابهت كلّ البلاد
فلا أرى نفسي هناك
ولا أرى نفسي هنا”
————————————-
مسقط في السادبع من مايو ٢٠٢٣م.
الصور لآخر سفر ، وما سبق.

زر الذهاب إلى الأعلى