في سويق نزوى نستعيد حشرجة الكندي “قف بي على تلك الطلول ونادي”

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

توشك الشمس أن تسحب حمرتها العالقة في صباح الباب الكبير ساعة دخلنا حارة السويق بنزوىإلا أن النهار يطول هنا. ولمجرد أن تغرب شمس الدنيا تشرق وجوه كندة. وما أن تغطُّ الأمكنة في هجعة المساء تظل الأقلام المغموسة في بِرَكٍ مداد أهل السويق تصطخب دون أن يهدأ صريرها على الكاغد إلا للأذان والصلوات لتثبت للمرة الألف أن العلم كندي. أمشي صحبة الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن يحي الكندي أمين عام مجلس أمناء جامعة نزوى ونائب رئيس الجامعة والشيخ عبدالله بن سيف الكندي المسؤول بشركة عمان للاتصالات وأولادي الفيصل ومحمد والهيثم فيسكننا الهوى الكندي وينعشنا الهواء الذي يهب شرقيا ونحن نقترب من “ربوط” البوابة الأولى المفتوحة على الوادي الأبيض وجبل الحوراء. كان الجبل يبث السويق ريّا القرنفل وضفاف الوادي الأبيض تباغت الحارة الكِندية بأريج وردها وياسمينها وآسها ورياحينها ليصَّاعد قَرْقَفاً مع المساء فتبرد سكك السويق. عبرنا “الصباح” الأول وهو أحد أربع “صباحات” للحارة ، فكان على الشيخين الكنديين عبدالعزيز بن بحيى وعبدالله بن سيف أن يطأطئا رأسيهما لكيلا يلمسا السقف العالي للمدخل ! فمن حقهما أن يفخرا بآبائهما وأن يزدادا بقاماتهم طولا. وعلى شمال الزائر للسويق تستوقفه سبلة الحارة أو “دار الندوة” كما يسميها الشيخ الدكتور عبدالعزيز الكندي. وفي الخلفية حصن السويق الشامخ وهو أحد ثمانية استحكامات تتوزع بامتداد السور الذي يحيط بالحارة إحاطة السوار بالمعصم. ولربما يُخيَّلُ للعابر لسبلة السويق أنها تتحشرج في صمت. وأن زمنا ليس بالقصير طافَ على مواقدها المنطفئة وأنَّ دِلال قهوة كندة تجتر الثمالات. وأن نوافذها معتمة ولم يجددها هبوب الهواء الشرقي. إلا أن حديث الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن يحي الكندي عن الدار والجُلّاس والحكايات سرعان ما يعيد إنتاج المشهد لتتزاحم التكايا على جدران سبلة السويق من جديد ولتكتسب الأوتدة عنفوان المحازم والتفاق. وتشتعل المواقد وتفور الدِّلال. وتتكدس أكوام النّعل أمام المدخل ويتداخل الرغاء والصهيل. يقول الشيخ الدكتور عبدالعزيز الكندي القادم من منتصف ستينيات القرن الماضي وهو يكفكف أدمعه : لطالما حملتُ دلة “التغنيم” في يسراي وملأتُ اليمين بالفناجين فصببت للجالسين في سبلة السويق الفنجان تلو الفنجان. ونزحف قليلا لتنفتح الحارة على ساحة فسيحة احتضنت ذات أزمنة بهجة الأعياد وتخضبت بدماء الأضاحي ذات أعراس. ولعلها تنتظر اليوم “نقعة” واحدة من “تفق بوعشر” لتعيد للساحة رزفتها. وهي بحاجة لنهمة واحدة من برغوم الأفراح لتتجدد الأعراس وتغلي تحت حطب السمر المراجل. ونتقدم خطوات في قيامة جدران الطين لنتوقف أمام بقايا زاجرة لآباء الشيخ عبدالله بن سيف الكندي والماء ما زال في القعر كالزلال ، فالوادي الأبيض يرفد “الجريات” لتمتلئ الطويان. سحرنا المشهد المفتوح على الرياض الخضراء باتجاه الحارة الشرقية للوادي فانتظرنا لعل نشيج “المنجور” في الزاجرة سيبدأ. ولعل ثور الزجر سيهوي في “المخب” مستعينا بلهاثه فيندفع الماء. إلا أن الساقية المتضاحكة لفلج دارس التي تتخلل الحارة وضواحيها عطلت الحاجة للزجر فتيبست “ونَّة” المنجور ليبقى أنين مقتلة عظيمة دارت هنا قرب الزاجرة ذات تقارع الأسنَّة بين كندة وأكفائها. ورغم أن ذكر الواقعة يقرح الأكباد فتثعب الدماء ، إلا إن حكمة شيوخ كندة وأكفائها نجحت في جعلها من الماضي ليسود الوئام. وتأخذنا السكك باتجاه أطلال قصر شامخ وبجدران ذات سُمُكٍ يتجاوز عرضها المتر ليَرنّ في الاسماع اسم المالك الشيخ العلامة سعيد بن ناصر الكندي قاضي القضاة في دولة السلطان تيمور والجسر الممدود بين قصر العلم وحصن نزوى وأحد المساهمين والصائغين والضامنين لاتفاقية السيب الشهيرة بين السلطان تيمور والإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي. ندخل قصر العلامة الكندي فتبهرنا تفاصيله ، من الغرف إلى المجالس إلى بقية المرافق كالمغاسل والمطابخ ونضد التمور والسلالم لنتوقف طويلا عند خلوة الشيخ ومناجاته. هنا عاش الشيخ العلامة الكندي ردحا من العمر قبل أن يتخذ من العامرات مقرا ومن ظبائها جوارا فتكون العامرات نزوى أخرى وسويق أخرى. وهنا نظم الشاعر الكبير الشيخ أبو سلام سليمان بن سعيد الكندي قصائد ديوان “نشر الخزام”. وإلى هذا البيت الشامخ اتجهت بوصلة الإنجليز لكسر الروح الثائرة لأهله فصبُّوا جام غضبهم على أبي سلام سليمان بن سعيد الكندي باستخدام ذات السلاح القمعي الذي جربوه في أكثر من بلد من البلدان حيث لبنديرتهم فيها المخالب والأنياب والمتمثل في سلاح التهجير القسري والنفي ليلحق أبو سلام بمن سبقه من الأحرار أمثال السيد بر غش بن سعيد والسيد خالد بن برغش وغيرهم من الأحرار أمثال محمود سامي البارودي رب السيف والقلم وسعد زغلول والمجاهد سليمان الباروني والجزائري محمد بن إبراهيم وسالم الخيون آل جناح والمئات المئات. وعلى بعد أمتار من قصر الشيخ سعيد بن ناصر الكندي نصعد سلم مسجد بني غدانة الذي ما زال قائما بمحرابه وأسقفه وسناطوينه وهو بين عدة مساجد في الحارة كمسجد المنظري.والبناء الحالي لمسجد بني غدانة من تجديدات زمن الإمام الرضي الخليلي. نقترب من محراب بني غدانة لنتحسس برودة الجص حيث سجدت الجباه الخاشعة لله والمتذللة لعظمته من الصوامين القوامين. وحيث ارتفعت الأكف السائلة والمتوسلة والراجية والمنتظرة. غادرنا مسجد بني غدانة إلى سكة أخرى تتلألأ نورا ، وسكة ثانية تفيض مدادا ليقودنا الحدس لبيت تفيَّأ ظل شجر هرمة فنتذكر أبا عبدالله الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم بن سليمان بن محمد الكندي صاحب موسوعة “بيان الشرع”. هنا كانت تعصر عروق الشجر وتمزج بسهاد القناديل المتكلس على الحيطان ليتشكل من الخلطة الكيميائية السوداء نهر مداد يفيض على آلاف الصفحات التي تتوزع على ٧١ مجلدا من مجلدات هذه الموسوعة الفقهية الأهم والأشمل في عمان والتي لم تسعف مؤلفها العلامة محمد بن إبراهيم الكندي ليرتبها ويضع مقدمة لها ، فنهض بالمهمة ابن عمه الشيخ العلامة أحمد بن عبدالله الكندي صاحب كتاب المصنف وهو موسوعة أخرى تتوزع على تفاصيل ٤١ جزءا ، فتولَّى الشيخ أحمد الكندي أمر ترتيب بيان الشرع ووضع المقدمات. ومن هامة كندية تطاول الأنجم إلى هامة كندية تسافر إلى ما بعد بعد الأنجم تزدحم الحارة بالأسماء ذات الصيت العالي وتزهو ، وكأنّ كندة القادمة من أنقى الأرومات العربية والتي لم تغير اسمها ولا احتكمت لطغيان الأسماء المحلية في أماكن النزوح بل ظلت كندة هناك وكندة هنا ، وكأنها تركت الكون كله لتحتشد في هذا المنجم النفيس للجواهر والمتمثل في ردة الكنود والسويق. ونواصل الترنح بثمالات كؤوس عِلْمِ كندة لنتوقف عند الشيخ العلامة سعود بن سليمان بن جمعة الكندي الذي أفنى أحد عشر عاما من عمره في كوت الجلالي ثمنا لمبادئه التي لا تقبل المساومة ففضل أن يصعد سلم السجن وهو بشموخ بيت سليط في مجده ، وأن لا يُفَكّ عنه قيده إلا وهو بعلو حصن العميري المتطاول في شعر السلطان سليمان بن سليمان النبهاني. ما زلنا في منجم جواهر كندة نتخيل الشيخ العلامة الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي العالم اللغوي الأشهر يتأبط رسالة الدكتوراه وقد عاد للتو من مدينة الرسول. وننرسم خطوات أخيه الشيخ العلامة يحيى بن أحمد الكندي المعلم والمربي والفقيه وقد أنهى حصة تدريسه لنابتة المكان. ونخرج من صرير الأقلام في السويق ووقع الخطوات على سككها إلى خرير الأفلاج حيث يفرض صوت الماء القادم من ساقية دارس بالحارة ، ومن سواقي ضوت والدنين والخوبي والسعالي التي تحاذي سور السويق ليؤدي صوت الماء معزوفة هجعة المغرب مع الطيور التي أنهت رفيفها النهاري فعادت لمروق الأطلال لتنام. وتنبش أسراب الطيور خفايا وأساطير مماثلة لأعجوبة البنت المسحورة التي كانت السويق مهادها وربوع صباها. أتُرى هذه الأسراب الآيبة مع المساء لتقتات الظلام هي مجرد طيور أم هي قرائن لأعجوبة نزوى وفتاتها المسحورة وتنتظر من يفك طلاسمها ويغنيها شعرا كما تتغنى الأزمنة ببائية الشاعر المجهول منذ زمن سلطان بن سيف اليعربي:“لقد ظهرت أعجوبة في زماننابقرية نزوى وهي أم العجائب”. ولربما سيسهم تأهيل حارة السويق أسوة بحارة العقر في غسيل الأذهان من الحكايات الخرافية المتعشقة لطين الأطلال. إلا أن تضاريس حارة السويق قد لا تساعدها لتكون حلة العقر الثانية فسككها الداخلية لا تتسع لمرور السيارات ، وقد تسمح المساحات بانسياب العربات الملكية التي تجرها الخيول أو سيارات الجولف فقط. وعملية تأهيل السويق يجب أن تنطلق من أفكار خارج الصندوق وتركز على الجوانب الثقافية الجاذبة وذللك بنشر المكتبات والقاعات المتعددة الأغراض وتأهيل ساحات للفنون وعروض المسايفة والرزفة والمساجلات الشعرية والأكشاك المتخصصة ببيع الأعمال الحرفية وتأهيل بيوت الشخصيات الذائعة الصيت وجعلها متاحف تعيد إنتاج حياة العمائم البيضاء مع بعض المقاهي التي تذكِّر بقهوة سبلة كندة. ولعل تبليط أرضيات سكك الحارة والذي تم بجهود أهلها هو بداية للتأهيل. ومع رفع الأذانات من مساجد الشيخ محمد بن روح والمنظري ومسجد النصر وبقية مساجد ردة الكنود عدنا لبيت الشيخ الدكتور عبدالعزيز الكندي لنصلي ونتحلق حول ما لذ وطاب من موائد اليوم الثاني للعيدوغادرنا السويق ولم تغادرنا فكل شبر بنزوى قصة طويلة تستحق أن تروى. وكل خطوة في السويق مشاها الأئمة والسلاطين والعلماء والشعراء هي بين أجمل عناوين قصصنا الطويلة. وفيما النهار ما زال طويلا هنا بشموسه التي لا تغرب ، انساب حزينا في الأذهان نشيج الشاعر الخالد الشيخ العلامة سعيد بن أحمد الكندي لنردد معه:قف بي على تلك الطلول وناديهل من قصور قد بقِين وناديوملاعبِ الفرسانِ في عرصاتِها وحُماتِها من حاضرٍ أو بادِيما إن بها إلا طُلولٌ خُضَّعٌوشُخوصُ أنديةٍ ورَسمٌ بادِيأمضى عليها اللهُ فصلَ قضائِهِفانتابَهَا ما انتاب جنةَ عاد.

مسقط في ٢٤ أبريل ٢٠٢٣م.

زر الذهاب إلى الأعلى