في سوق نزوى أتحشرج ببكائية السيّاب “الليل والسوق والقديم وغمغمات العابرين”

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

متى كنت هنا بالتحديد ؟لربما لدى باعة الأمنيات التي لم تتحقق ما يقارب التواريخ. لقد جئتُ ذات زمن كان فيه التاجر الثالث في صفة دكاكين اليسار قد اعتاد اتخاذ ركبته مسندا لدفتر الصبر. وكان ذات الدكان يعرض “بجالي” فضية اللون. ولمجرد استخدام الإبهام في تحريك زرّها نحو الأمام يتحول الليل إلى نهار. لقد تمنيتُ يومها شراء مثل ذلك “البجلي” الوارد من الهند ، لعلِّي أباغت به عقارب الصيف على جدران سكتنا إلى مسجد “الصريبيخ” بالفيحاء ونحن في الطريق لصلاة العتيم. أتراه ظلام الأمس كان أسود من اليوم لدرجة أن يكون امتلاكنا للبجلي من الأمنيات ؟. أم أن إحساسنا بالأشياء هو المختلف. أم أننا نفرح بانتصاراتنا على الهوام البائسة حين نباغتها وهي تخرج لتتبرّد. لقد طلب فيه نصف قرش “فرنس” من قروش النمساوية ماريا تريزا ، بما يعادل خمسة وسبعين من بيسات فيصل بن تركي. ليس في “البُوك” غويزيات لأخرخشها فأقتني ذلك “البجلي” الذي يعمل بثلاثة قوالب من البطاريات. كما أنني لست من أهل نزوى ليقيدني البائع في دفتر الصَّبر. لعلِّي تجاوزتُ سن العاشرة يوم دخلت سوق نزوى لأول مرة ، وقد بات الأمس تاريخا كله. ولكي أقترب أكثر فإن الدكان الخامس في صفة اليمين كان يبيع “سكتونا” وبمرفس خشبته حمراء عاقدة. يومها انتفض الكبرياء ونضَّتْ عروق الهيبة لامتلاك ذلك “السَّكْتون” فالعقاعق بدأت تتصايح على أشجار الفلوات. ولكم ستكون فرصة لو تنكَّبْتُ ذلك “السكتون” وتمنطقتُ بحزام “كيلاته” الصغيرة فجاريتُ الكبار ولقالوا عني تفَّاقا. ولكتبتُ بلعلعة الرصاص انتصاري على عصفور ضمن المطاردة الأزلية غير المتكافئة بين الصياد والطريدة. ولكنها “الغويزيات” مرة أخرى قاتلها الله. ولربما لا تستذكر الطفولة التواريخ ولا تعوِّل عليها كثيرا ، ولكن العالق في الذهن كسهاد القناديل على الحيطان ذلك الدكان السابع في التفريعة الغربية للسوق حيث يجعل الأنفاس تصَّاعد في السماء والحلوق تشرق بالملح ، فهناك شاهدت سيكلاً سماوي اللون كالحلم. وعلى “سكَّانه“ الفضي اللامع أداة تنبيه للماشين ذات رنين كساعة “الرنجوين”. أذكر أنني مسكتُ “السكَّان” وحركته يمنة ويسرة بشعف وخرخشتُ جرس “الرنجوين” بفضول ، ولكنني سرعان ما تخليتُ عنه بالكثير من التحسر والانكسار. ليت مثل ذلك “السيكل” كان يقدَّم هدية العمر لفتى ختم القرآن. ولكن من سيهدي “سيكلا” بقيمة تتجاوز القروش المدفوعة لمعلِّمة القرآن. أما الدكان الذي يبرق عند الجدار الغربي الأخير فكان يبيع أقلام حبر بأغطية ذهبية اللون. تذكرتُ قلمي البلاستيكي الناشف “العويق” الذي لطالما عضضتُ أطرافه كثيرا كلما توسلتُ الذاكرة لأكتب به جملة مفيدة فلم أوفق. آه لو امتلكتُ مثل هذا القلم فسيشعُّ في منحر دشداشتي ، وكلما عطش غمسته في “دواة” حمراء الحبر كمصر العيد. لا بد لهذا القلم الذي يماثل قلم أبي من أن يسيل جواهر لا تقدر بثمن كجواهر أبي ، وسيذرف قصائد لا تبارى كقصائد أبي ، عكس قلمي الناشف الذي غاص في جلد أصابعي لكثرة ما حككته على الورق الخشن لعله يتعطف بشخط. وقبل أن أنصرف عن دكان بائع الأقلام والأحبار تحسستُ أذني فكثيرا ما خبأت ُقلمي العويق خلفها كما يفعل النجار. وأنتقل من “متى جئت” إلى “كيف جئت” ، فأذكر جيدا أنها ضمن زيارة الوالد لأصهاره في “الحجَّامية” وللقائي بإخوتي وأخوالهم المحاريق وكان بعضهم في سننا. لقد دخلتُ سوق نزوى وأنا أتمنطق حزاق فضة وعلى رأسي مصر العيد الذي فات. وأذكر أنني وقفت طويلا لأتأمل بابه الغائر بالنقوش كبوابة حصن نزوى. وأنني مشيت “حِدَيْدِي” كما كنت أمشي في سكة الظلام بسوق خور بمبه قبيل العيد. وكان نهر البشر يجرف هزالي معه ، فلم أكن سوى قطرة في جريانه المتدافع. وكانت السكة من عتبة الباب الرئيسي وحتى نهاية السكة الموصولة إلى “البراحة” التي كان يفترشها الإمام الرضي الخليلي ليترأس مجلس العصر أو مجلس الوزراء أو مجلس الوزراء والناس كانت طويلة ، أو لعل المسافات هكذا تبدو بقياسات الأمس. ثم تتفرع من الجدار الغربي سكة أخرى نحو الشمال بموازاة الجدار الغربي ثم تنعطف شمالا من جديد ليكون الاتجاه هذه المرة شرقا بموازاة السكة الرئيسية للسوق. إلا أن هذه السكة تختلف في ألوان معروضات دكاكينها عن السكة الرئيسية. هنا تركز السكة على المراجل والصفاري والصواني و”المخطَّات” التي تنشر جذعلَّات النخل وبعض الهِيَبَة والمِجَازّ ومقالي غيلة الطين والصاروج. ويتخلل السكة بعض صاغة الفضيات وبعض المعروضات من تفاق بو فتيلة والتروس والسكاكين المفضضة المقابض والحبال والدلاء الحديدية وصوع طلوع النخل. بينما السكة الرئيسية للسوق باذخة الألوان بلمعان فضة الخناجر وبريق المصاغ والمصار وطاقات الثياب والزري وقوالب الخياطة وبريق الفولك و”أرناج السناجيف”. وكان الوقت صيفا لأن بين الدكاكين التي أحاطها المشترون من يعرض دفعة جديدة من “مطارات” الماء المجلوبة حديثا من كراتشي ، وهي مطارات ما أن تنتفخ بالماء حتى تلغي الحاجة ل“السِّعِنّ”. وإذا ما تدلَّتْ من “صيخ” سيارة “اللاند روبر” جهة “الدرويول” وصافح الهواء ماءها الراشح تحولت كذوبان “البرف”. وكأنَّ جبل الحوراء من العلو ليتوشح الثلج وهذه “المطَّارة” بعض زلاله البارد. ولم أكن أعرف أسماء الباعة في سوق نزوى فالزيارات عابرة والدكاكين لا ترفع لافتات بأسماء أصحابها ككل أسواق عمان القديمة. ولكن أحد الباعة وقد اعتاد التربع أمام صندوق خشبي أنيق يمتُّ بصلة قرابة لجد إخواني فكان لوحده لافتة وإن لم يعلق اللافتة. وقد حفظتُ اسمه من لسان إخواني وهو الوالد عبدالله بن ماجد السيفي عم الشاعرة عائشة السيفية. لقد زرته في بيته قبل سنوات ولكنه لحق بوالدها. ورغم أنني لم أقرأ رثاءها فيه إلا إن رائعتها “أنا لا أحب أبي” كانت مفعمة بالحزن الذي يكفي لأبيها وعمها وكل الآباء والأعمام :“يطلّ أبيفي الحنين الذي يشبه الملحأسألهكيف حالك؟هل كلّ شيء على ما يرام؟وهل نمتَ أفضل ممّا مضى؟وأطمئنهأنّ:أمّي بخيروأبناءهوقبيلتهونخيل بساتينهومبانيه والمستأجرينوأنّ قرابة عام مضى منذ ماتالجميع على ما يرامولكنّ قلبي وحيدووجهي كذلك”. كان ظني أن دكان الوالد عبدالله بن ماجد في المنتصف وعلى يسار الداخل من باب السوق الغربي.إلا أن التاجر ياسر السليماني الذي التقيته أخيرا وهو في هزيع العمر أصرَّ على أن دكان السيفي هو الذي يجاور دكانه على “صفَّة” اليمين من الدكاكين. لن أجادل ياسر السليماني فهو الأصدق ، لأنه جاره ورفيق صبره ويعرفه منذ العودة من “البحور” كما يعرف نقوش طوق هذا الخنجر الذي يعرضه وكتعشيقات هذه الزخرفة على قبضة السيف الذي كتب يوما رعشة رزفة العزوة. لقد خذلني أطلس الطفولة في تحديد دكان السيفي أو لعلها شيخوخة السليماني هي التي وضعت أطلسها ، ولكن تبقى نزوى أدرى بسوقها. ومن بين تجار سوق نزوى الذين ذكرهم شيخنا حمود بن عبدالله الراشدي ذات زيارتي له في بلدة العينين أثناء وجوده في نزوى كأحد طلبة مدرسة الإمام الخليلي هو تاجر الأقمشة حمد بن عيسى الزكواني وكان يتولى تنفيذ بروات الإمام الرضي الخليلي بصرف قماش “أمريكاني” لكل طالب وبما يكفيه لدشداشة العيد. بحثت عن دكان الزكواني في جغرافية التحديث للسوق فتقطع القماش ولم يعد من يفرح بدشداشة العيد فكل الدشاديش الملبوسة طوال العام ببياض دشداشة العيد وبذات عطر فراخة المشي إلى المصلى في ديمة من التكبيرات. لقد توارى اسمه ورسمه وترتيب دكانه. كما بحثتُ عن دكان ناصر بن راشد العدواني بائع الخيازرين الذي زاره العلامة الراشدي ذات تذكر لجغرافية بيضة الإسلام وقد تصرم العمر وتكسرت العصيُّ وتداعتْ الجدران. ولم يكن عبدالله بن ماجد السيفي وحمد الزكواني وناصر بن راشد العدواني وحدهم ممن تداخلوا في الترتيب والحضور والغياب فالقائمة تطول لتغطي أسماء مثل علي بن عبدالله الحوقاني وسالم الحوقاني ومحسن الحوقاني. كما يحضر في الغياب الكثيرون ممن لم تغفلهم أيام السوق بقسميه الغربي أو الصنصرة الشرقي فهم لافتات أخرى وإن خلا المكان من اللافتات أمثال عبدالله الكمياني وسليمان بن عيسى الزكواني وسالم بن عبدالله الإسحاقي وناصر بن محمد الحراصي والناظر مهنا بن سيف النبهاني وعبدالله بن سهيل الصائغي وصالح الحارثي وعبدالله العامري وصالح بن خميس الحارثي. أتجول بين قسمي السوق لأراجع الجغرافيا التي أتعبها الزمن أسائل المكان عن سعيد بن خميس المخاشني ومحمد بن خميس الرميضي. وأقلب في ذاكرة أستاذنا خلفان الزيدي أسائل أحرفه الباكية عن تبروزة أبيه الوالد حمد بن محمد الزيدي وعن سعود بن محمد الزيدي ومحمد بن منصور المفضلي ذلك الذي تسحب من السوق ولم يتسحب من السكك فكان يحبو إلى المسجد وأقرأ ما كتبه عن سعيد بن علي بن سليمان البطراني. وأستدعي من دفاتر الصبر سالم بن زاهر العوفي ونعمان النعماني وسليمان بن بجاد الكمياني وسيف بن غصين أمبوسعيدي وعبدالرحمن الإسماعيلي وعباس اليعربي.لقد تم تحديث السوق بما يعيد له روحه ووهجه وفخامته إلا أن دكاكين الخارج كسرته ، والفرسان غادروا المضمار. وأدخل السوق اليوم بعد نصف قرن وكأنني بكَّرْتُ في المجيئ والدكاكين ما تزال تجرّ نعاس الظهيرة‏أو كأنَّ السوق خان الوقت وما عادتْ خرخشة المفاتيح أجراس نهاراته. ‏أو لعل الندامى تيمّموا شطر الدكاكين البعيدة فأخرجوا القدامى من أمسهم وما عادتْ لهم مساحة في الغد. ووحده ياسر السليماني آخر الصامدين ما يزال يهز خنجره التي سبق وباع قرنها الزراف لتبقى الفضة القديمة ورائحة الأيدي على “بزيم” الحزاق. ‏أسأل ياسر السليماني عن الباب المغلق بجوار دكانه فيخبرني أنه لفلان ، وذاك لفلان وذاك فيصمت وفي أدمعه المتفلّتة صور الذين اقتسم معهم العمر. ليت أهالي نزوى الذين أحيوا العقر من رميم الأيام أن يثأروا لسوقهم فينعشوه بهممهم. ليتهم يفكرون بجعل النافذة الرئيسية لمبيعات حلوى السيفي داخل هذا السوق لكونها من الأسماء الجاذبة فينتعش بها ومعها المكان. ليت حلوى بن نصير أن تخرج من هناك إلى هنا. ليت أحمد بن سيف الفرقاني ينقل خزفه وفخاره وخناجره وصوغه من خارج السوق إلى داخل السوق. ليت أحد المقاهي يفتتح ركنا للقهوة بمذاق الأمس. ليت بنك نزوى يفتتح فرعا له داخل السوق ولعلني أكرر ما يعرفه النزويون فإن ضيوف عمان من القادة والساسة الكبار لا يزورون المولات بل يضعون على أجندة الزيارة سوق خور بمبه. والسلطان الخالد الذكر قابوس بن سعيد اصطحب ملكة بريطانيا لزيارة سوق نزوى وزار السوق الملك تشارلز وملك إحدى الدول الاسكندنافية وأحد أمراء آل سعود وعشرات الساسة. والشيئ بالشيئ يذكر فقد زرتُ مولات عدد من عواصم ومدن العالم في أربع قارات. ودخلت أشهر المولات مثل “هارودز” و لافايية ، إلا أنها ليست بمتعة دخول خور بمبة أو الأسواق القديمة في نزوى وسمائل وبهلاء ونخل والرستاق وصحار وسناو والحافة إلى جانب سوق الحميدية في دمشق وسوق الملح في صنعاء وسوق الرباط القديم. لقد مر التاريخ هنا ومعه الأئمة والسلاطين والقادة الكبار. والعودة إليه عودة لمجد المكان. وكما دخلتُ سوق نزوى صغيرا ولم يكن بالبوك غويزيات. هأنذا أدخله اليوم ولم أضطر لفتح “البوك” لأنني لم أجد ما أشتريه فخرجت وأنا أنزف مع بدر شاكر السياب:”الليل والسوق القديم خفتت به الأصواتإلا غمغمات العابرينوخطى الغريبوما تبثّ الريح من نغم حزينفي ذلك الليل البهيمالليلوالسوق القديموغمغمات العابرينوالنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوبمثل الضباب على الطريقمن كل حانوت عتيقبين الوجوه الشاحباتكأنّه نغم يذوبفي ذلك السوق القديم.

زر الذهاب إلى الأعلى