في “سكَّة موالكة” المسترقة السمع لحصن نزوى أسائلها عن “ولد المُجبّر”

حمود السيابي


حمود بن سالم السيابي

هذه “سكة موالكة” في العقر جارة الشهباء والحاضرة في صخَب النهار والمُسْترقة السمع لسمر الليل. تفتح السكة درايشها على فناء الحصن فتنصت لقراءة القرآن. وتضبط ساعات حيطانها على صوت أذان غرفة الصلاة في حصن نزوى فيتعاقب الجديدان. وحين تطل السكة من الرواشين تحضر البرزة في ظلة العصر عند سفح الشهباء فتقتسم رائحة القهوة وتتشارك تغنيم الفناجين. وإذا ما اقتربتْ الخيول من بوابة الشهباء ولمعتْ غررها استضاءت حلق أبواب بيوت سكة موالكة. حتى العمائم التي تدخل الشهباء وتخرج تكون السكة قد أخذت علما بالغيم السابح في الأفق. ولولا سكة الماشين المحاذية للسور حدّ الالتحام لَعُدَّتْ “سكَّة موالكة” من مرافق الحصن وفناء الشهباء. أقف قبالة بقايا بيت والدنا الشيخ سعيد بن محمد المحروقي “ولد المجبَّر” فأطالع الغرفة العلوية لخلوة الإمام الرضي الخليلي فأغبطه على عبقرية الموقع وعلى التوفيق في الاختيار. ولعل شيخنا ولد المجبّر لو أفنى العمر كله في البحث عن سكن في نزوى لما وجد أفضل من البيت الرابع على السكة المنفتحة على جدار الحصن حيث بمقدوره أن ينصت لتكبيرات الإقامة من درايش سبلته فيتوضأ ليلحق الركعة الأولى في غرفة الصلاة بحصن نزوى ويكون أول المصافحين للإمام من غير سكان الحصن وهو يدخل مع الشمس في برزة الصبح. لقد تغيرتْ سكة موالكة وهرمت البيوت وتداعت الجدران ونخرت الدرايش والأبواب ، فلا تكبيرات غرفة الصلاة تصل ، ولا دوي النحل لحلقات المتعلمين يتسلل من مروق الحصن لمروق بيوت السكة. ولا الخيل تعبر. ورحل من كانوا بالجوار فاكتست السكة الحزن ورحلت هي الأخرى لتبحث عن سكك تجاورها. ولتلك الأسباب عاف ولد المجبر السكة وابتعد إلى بساتين مرتفعات الضفة الشرقية لوادي كلبوه والذي يسقيها النهر النزوي الخالد دارس ليستقر في البستان المعروف ب”الحجّامية”. ولربما في اختيار الشيخ للحجامية لارتباط البستان بممتلكات دولة الإمام. ولأن في نخيلات الحجامية بعض التذكر بزهرة الأيام. وفي مواعيد سقيها ما يعيد لصفاء السواقي. لقد كانت الحجامية بيت مال المسلمين وهي ضمن الوقوفات التي تصرَّفَ فيها الإمام الرضي الخليلي لتدبير المبالغ التي يتطلبها الصرف على منافع الدولة ولمقابلة تكاليف بنود موازنتها الجارية من حماية الثغور ورواتب رجال الدولة وطلبة مدرستها وما ينفق على الإعاشة. لكن رابطة شيخنا ولد المجبر بدولة الإمام الخليلي تتعدى الجوار بسكة موالكة. وتتجاوز السكن في الحجامية كإحدى وقوفات الدولة ، فما يربطه بالإمام الخليلي أكبر من ذلك بكثير ، فالشيخ يتكرر حضوره في الدولة وأزمنتها ووقائعها وحروبها وثوراتها. وتشير مدونات ذلك الزمن إنه عمل وكيلا للأوقاف في عدة حواضر بالداخلية والباطنة والظاهرة ، وكان بالتعاون مع مجموعة من جباة الزكوات تجتمع في داره الأموال ليسلمها للإمام أو من يكلفه الإمام بالمهام. ويتكرر اسم الشيخ سعيد بن محمد المحروقي في سجلات “ديوان الجند” كأحد المتعهدين بتوفير الطبعات الحديثة للمصاحف وبالأخص “جزء النبأ”. حيث تشبر سجلات “ديوان الجند” لسنة ١٣٤٢هـ أن الشيخ سعيد بن محمد المحروقي تسلم مبلغ ٤٢ قرشاً ثمن كراريس “جزء النبأ” ، وأن الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي تولى دفعها من حر ماله الخاص. وتوثق الذاكرة النزوية إلى أن الأطفال كانوا يتحينون فُرَصَ مرور الإمام الخليلي في طريقه لمسجد السنود أو وهو يخرج من جامع العقر إلى الشهباء فيسألونه المساعدة لشراء “كراس النبأ” فيأمرهم بالذهاب إلى “ولد المجبُّر” لاستلام الكراريس وتقييدها في حساب الإمام. ويتكرر اسم ولد المجبر في ستة آثار ماء من “بادة” الجمعة لفلج “بوحمار” في بلدة فرق وقد اشتراها بالإقالة من الإمام الخليلي ، وقيل أن الإمام غالب بن علي الهنائي فك بيع الإقالة عن ٣٠٠ قرش. وتكرر اسم ولد المجبر في جلسات الشتاء التي يحييها حصن نزوى برعاية الإمام الخليلي حيث يتولى الشيخان محمد بن علي الشرياني وخالد بن مهنا البطاشي وغيرهما من قراء الإمام تلاوة ما يود الإمام أن يسمعه الساهرون. وتكرر اسم ولد المجبر في حلقة الدرس في سبلته حيث يتولى تعليم أبناء العقر مبادئ العربية وما يفقههم في الدين. وتكرر في الحديث النزوي عن تجار السوق الغربي حيث تخصص دكان ولد المجبر في بيع الأصباغ و”لُمْغُرْ” وغيرها من المواد التي تدخل في صناعة المداد والأصباغ. إلا أن أجمل ما يتكرر فيه الشيخ ولد المجبر يتمثل في الوشيجة النبيلة التي نسجها مع الخليلي الإنسان قبل الإمام. ويتذكر الشيخان محمد بن سعيد المحروقي وماجد بن سعيد المحروقي يوم كان والدهما يرسلهما للإمام ومعهما فواكه المواسم فيصعدان بمخرافة تين ومخرافة عنب أو مخرافة أمباء إلى الغرفة العلوية للإمام. أو يحملان تبشرة قيظ الرطب فتتبارك الزروع بالأدعية. وأعود إلى البيت الرابع في سكة موالكة فأقف والإبن مازن على تلة من الطين أمام بقايا الحيطان فيشير إلينا عبدالله بن خلفان البوسعيدي بأن هذه التلة هي من بقايا طين سبلة ولد المجبر فأكاد أتحاشى عن دوس البساط وتحريك التكايا. إذن هنا كانت السبلة حيث نقف ، وهنا درايشها المشرعة على الحصن. وإلى هنا جاء الإمام الرضي الخليلي زائرا لصديق ومواسيا لجار. وهنا جاء العلماء والصلحاء والأخيار والطيبون من نزوى ومن معارف ولد المجبر. وإلى هنا جاء سيدي الوالد في زيارة لصهره ولد المجبر أو أثناء تردده على نزوى للقاء الإمام. وتقودنا سبلة الدور الأرضي في بيت ولد المجبر بسكة موالكة إلى رواق يعلوه صباح ما زال منحنيا على زمن تصرم. وينتهي الرواق بمبرز فغرفة شتوية ثم نضد للتمر. وفي زاوية من الدور الأرضي يرتفع السلم باتجاه الدور الثاني حيث تتوزع غرف الصيف وتتوسطها “براحة” عائلية. وتظهر البقايا عن درايش كبيرة كانت للبيت ، وكانت تعلوها الروازن. وتقول حوليات البيت أنه هنا رأى النور المشايخ محمد وماجد وإدريس ولقمان وشقيقتهم أم يعقوب وشقيقتهم الثانية أرملة الشيخ عبدالله بن ماجد السيفي. وهنا كبروا وتعلموا وشبوا عن الطوق. وأعود إلى عبدالله بن خلفان البوسعيدي ليحدثنا عن جيران ولد المجبر في سكة موالكة فيشير إلى بيت راشد بن خلفان الصباحي ثم بيت سليم بن سبران فبيت علي بن حمد الغريبي ، ثم البيت الممتد جهة الغرب وهو لأحد إخوة عبدالله البوسعيدي. ويبدو أن السكة تأخد تسمية أخرى عند تقاطعها للقنيطرة حتى الانتهاء بصباح الشجبي. وكالكثير من العقريين الذين يتخذون من العقر سكنا شتويا لتراص بيوت الحارة ولما توفره ضخامة جدران البيوت من الدفء. بينما يقضون الصيف في البساتين سواء تلك المتصلة بسور العقر أو في الجوار ، أمثال الشيخ سعيد بن ناصر السيفي الذي يقضي الشتاء في العقر وينتقل كل صيف إلى “بستان شنجوه”. وكالشيخ منصور الفارسي الذي يجاور “مسجد الشيخ” في الشتاء ويبتعد صيفا إلى “القبَّالة” ، كذلك أراد شيخنا ولد المجبر من شراء بستان في الحجامية ليظل كتذكار من الإمام وكمصيف. لكن الشيخ المحروقي سئم العقر لرحيل سيد الشهباء ولخلو العقر من أهل العقر فكانت الحجامية مقرا دائما لا يبدله الشتاء. وفي ظهيرة هذا الصيف القائض مررنا بسكة موالكة لزيارة بيت الشيخ سعيد المحروقي وكان فارغا إلا من ظله وعطره ومآثره ، فالبيت اليوم هو لنجله الأكبر الشيخ محمد بن سعيد المحروقي ثم تتبعنا ولد المجبر إلى الحجامية فدخلنا البيت القديم الذي يسكنه اليوم نجله الأصغر الشيخ لقمان بن سعيد المحروقي الذي ولد يوم رحيل الإمام الرضي الخليلي في ٢٩ شعبان سنة ١٣٧٣هـ. ولقد رأينا الحجامية خضراء بالنخيل التي فسلها ولد المجبر وممرعة بوجوه محمد وماجد وإدريس ولقمان. ولئن رحل شيخنا ولد المجبر ليلة الجمعة التاسع عشر من رمضان سنة ١٤٠٨ هـ عن سكة موالكة والحجامية ونزوى وعُمان فإنه الممتد في أولاده بحنين الجوار لسكة موالكة وبروح التشبث بالحجامية حيث ظل النخيل التي فسلها بيديه.

نزوى في ٢٨ مايو ٢٠٢٣م.

زر الذهاب إلى الأعلى