في طوي الحضارمة التي تقاسم الراحلين فرحة المطر ورائحة العيد وبنفسج ثمر الزّام

حمود السيابي


———————————————
حمود بن سالم السيابي
———————————————
بين بيوتنا العابرة ومضاجع آبائنا مسافة سفر يوم وليلة بحسابات الزمن الأول.
وإذا ما مُطِرْنا في مسقط انقبضت قلوبنا على الفيحاء فلعلها تصطرخ العطش فنرفع الأكف لرب السحاب والمطر لأن يسوق المُزْن إلى حيث مراقدهم ليبرد المكان.
وإذا ما تدافع وادي سمائل تحلَّقْنا في مسقط حول الشاشات أو نصبنا فخاخ اقتناص الصور و”الفيديوات” من “الجروبات” لنرى شجر الحنَّاء يتمايل على الذين يتوسدون الزعفران
ولربما لا تعيش “طوي الحضارمة” هذه التقاطعات في الأمنيات مع الطقس فبيوت الحارة وما جاورها تتقاسم كل قطرة مطر مع الأحباب الذين يستريحون تحت ظلَّة الصبح لجبل الشيبة أو يتفيأوا أغصان شجر الغاف في مقبرة الحويض.
وتتقاسم الحارة مع أحبابها رائحة نبات النخل وتزهير شجر الزَّام والأمباء ، رغم عدم حاجة الراقدين للبرد والدفء وللشمس والظل وبشارة القيظ.
ولكنه الحب.
ولكنه الشوق.
والمسافة بين أبواب بيوت طوي الحضارمة وشواهد المضاجع مجرد أمتار فقط ، ومتى ما اشتاقوا هرولوا ليقرئوهم السلام وليبثوا الغائبين الشكاوى.
وفي ثالث أيام عيد الأضحى لهذه السنة ١٤٤٤هـ. كنتُ وأولادي في طوي الحضارمة نؤدي واجب تهنئة الأصهار بالعيد ولنطفئ الشوق للذين تسحبوا من حياتنا لحياة أجمل.
ولعلها الصدفة الأجمل أن تضع الشيخ سعود بن عيسى بن سعيد الكندي كأول من صافحناه عند مسجد بن داؤود فتفاءلنا بالسعْد في اللقيا.
مشينا معاً صوب البيت الحديث لشيخنا العلامة إبراهيم بن سيف الكندي في طوي الحضارمة بشاذون.
ولم يكن البيت بصورته المستقرة في الذهن بعد أن خلع جدران الطين وإنْ لم يخلع الأمس.
واكتسىت تفاصيله قفطانا مغربيا وإنْ احتفظت الأوتدة بالصمع وتفق بوفتيلة.
استقبلنا الشيخ سعيد بن مالك بن إبراهيم بن سيف الكندي العائد من المغرب في ختام تكليف وطني بوقار جده وأريحية أبيه.
وندخل البيت الحديث معه وقد سكبتْ مكناس “الزليج” المغربي الملوّن على الجدران.
وعلَّقَتْ مدينة فاس قناديلها الأندلسية.
وأرسلتْ مرَّاكش مناضد خشب الأبنوس المعشق بالصَّفر وأرائك الزَّان المكسوة بالأقمشة الطبيعية الفاخرة.
ورغم أن شركة الكهرباء عاندتْ فانطفأتْ لتحرم زوّار البيت من تأمُّل كامل الأناقة المغربية ، لكن “عين زليطن” كانت تتسكب من الثريات النحاسية والأباجورات والمزهريات.
وكلما تسللتْ شمس الأصيل عبر ستائر الحرير المغربي شعَّ المكان.
لقد عاد الشيخ سعيد بن مالك بن إبراهيم الكندي حفيد صاحب البيت الحديث من المغرب وعاد معه تاريخ الأدارسة والمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين والعلويين فنثر صوغات الأسفار في زوايا المكان.
نغرق في تأمُّل ما سمح به انطفاء الكهرباء لأن نراه لكن الأرواح تهفو بعيدا إلى حيث يرقد الجد والأب في الحويض بأمنيات أن يكونا في المكان الأفضل.
ومع آخر رشفة لثمالة كؤوس “الأتاي” في مجلس الشيخ سعيد بن مالك الكندي خرجنا من الحصار المغربي المكثف إلى اللمسة النخلية.
ومن رقة “الزليج” إلى عنفوان حصيات جبل الشيبة لتتداخل السكك وسواقي الينابيع وينهض النخل وشجر الزَّام فتتوازن الألوان.
يبدو أن آباء كندة مذ سكنوا طوي الحضارمة قد قبلوا التحدي مع جبل الشيبة فساروا معه على خط السباق مع الشموخ.
ويبدو أنهم انتصروا فاستنطقوه ليفصح لهم عن أسراره ويوشوشهم بخزين مائه فتتبعوا مدامع الصخر لتنساب العيون والفروض التي دخلت سجلّات أفلاج وعيون وينابيع شاذون.
نمشي بصحبة الشيخين سعيد بن مالك وسعود بن عيسى لتستقبلنا ساحة تتوسط الحارة وقد أحْنَتْ شجرة “زام” عليها حنو المرضعات على الفطيم فأسأل حفيد الشيخ إبراهيم بن سيف عن بيت الشيخ سيف بن أحمد فتأتي الإجابة دامعة وهو يشير إلى بيت أبيض الطلاء كبياض سريرة ساكنيه فكان البيت هناك.
نأخذ نفساً طويلا لنتحشرج بمأساة تزلزلتْ طوي الحضارمة لها ، بل الصعبة الكبيرة بل ولاية نخل بل عمان.
في تلك الليلة التي لا قمر فيها سوى وجه الشيخ سيف بن أحمد الكندي امتشق الشر بندقيته ليغتال المؤمنين الآمنين فيا فوزهما ويا خسارة الضاغط على الزناد.
لقد ارتقى الشيخ سيف بن أحمد الكندي وزوجته مراتب الشهداء ليتضاءل أمام علوِّهما جبل الشيبة ، بينما خرّ في أسفل سافلين ذاك الزاحف في خوف ليقتل ويروِّعْ لأجل حفنة قريشات.
غادر الشيخ الشهيد وزوجته الشهيدة سطح بيتهما لآخر مرة والخضاب الأحمر مكانه حيث رقدا في اطمئنان.
وسارا في موكب من الأوسمة والنياشين ورائحة السدر إلى الحويض لينغرسا هناك ساريتين للواء.
ونتوقف حيث كان بيت المصلح النخلي الوجيه الشيخ حمود بن أحمد الكندي الذي تعشَّق السفر بين القارات إلى أن انتهى تكليفه التاريخي في ثاني أيام عيد الفطر لسنة ١٣٩٣هـ. فخرج من ظلة الزامَّة إلى ظلال لا تشبه الظلال في الحويض بمشيئة خالق الشمس والظل.
كان الشيخ حمود بن أحمد هامة وقامة وقد أبكى رحيله نخلاً وما تزال تبكيه.
وكان حصن الصلت بن مالك على تواصل مع هذا الحكيم النخلي ليرفد العدالة بحلوله التوفيقية.
ويشير محدثي إلى بيت الشيخ عبدالرحمن بن حمود بن أحمد الكندي النائم هو الآخر تحت صلف أخضر في الحويض.
لقد ركب ذلك العصامي البحر مع من ركبوا باتجاه الشطر الأفريقي للوطن ليضرب في الأرض ولينضد سنوات العمر.
وعاد مع من عادوا إلى شاذون ليجعل النخل باسقا.
وتستعيد شاذون الشيخ عبدالرحمن في شموخ أبنائه المشايخ إدريس وإخوانه.
ولعل بيتهم اليوم هو أقرب بيوت طوي الحضارمة لجبل الشيبة ، لذلك كان عاليا بهم قبل أن يعلو بجدرانه ليطاول الجبل.
أما البيت الذي اصطفت بمحاذاة جدرانه السيارات فهو بيت الشيخ مالك بن إبراهيم الكندي الذي رحل واقفا كسارية للعلم وعلى رأسه راية الشعر وقد تشبث بها لآخر نَفَس لكيلا تنتكس.
وعلى بعد خطوات من باب بيته يبدأ باب بيته الثاني في الحويض وكأني بالشيخ مالك يرقد باسم الوجه ليكسب القافية أناقة.
أما هذا فبيت الشيخ نجله سيف بن مالك بن إبراهيم وقد بني البيت على أنقاض بيت الشيخ الزاهد سعيد بن سيف الكندي
إلا أن الشيخ سعيد بن سيف نزح إلى “أبو عبالي” ليستقر هناك تاركاً بيته سكنا للشيخين صالح بن سعيد وعيسى بن سعيد ، واستمر الجزء الأهم من البيت سبلة للعائلة ومنتداها ومنبرها.
إلا إن الشيخ صالح بن سعيد الكندي تحرك عدة أمتار نحو “الطبقة” ليستقر هناك ويسير سير آبائه في الإصلاح كمرجع نخلي بشكل عام ولعائلتة الكندية بشكل خاص.
فيما حمل الشيخ عيسى بن سعيد الكندي روح آبائه في السعي والهمّة الوثابة في العمل فساقته أقداره إلى الكويت ، ثم يقرر العودة ليدير أهم شركة مواصلات بين مسقط والولايات “نقليات عيسى ومالك”.
ولقد وافاه الأجل في مستشفى بأبوظبي وهو في ذروة سعادته بقرار الطبيب بتمام شفائه وبمقدوره أن يغادر..
وبينما الأسرة تلملم الأغراض وهو يتوضأ للصلاة فاضت روحه ليلتقي بمن سبقه في الحويض.
ولم يعد الشيخ عيسى لمقصورته الخضراء ، وعسى أن ينتظره في رحلته البرزخية ما هو أخضر من الخضراء.
لقد أتاحت شركة نقليات عيسى ومالك فرصة للشيخ عيسى بن سعيد الكندي لأن يبني جسورا مع المرجعيات العمانية والقبلية فتضاعف رصيد كندة من العلاقات مع الآخرين.
وما تزال المقصورة الخضراء تذكِّر بالفتى النخلي الذي قاد سيارته إلى هنا ليربط سكون شاذون بصخب العالم الذي ترسم على دروبه إطارات “ميشلان” و”دنلوب” و”جوديير” خرائط الترحال.
وبين الفرح برؤية المآثر تزهر والحزن برؤية شواهد القبور تذكر برحيل الأنقياء الأتقياء كان الشيخ سعيد بن مالك الكندي يوجه العاملين بنفض شجر الزام فاكتست الأرض قطيفة من البنفسج ، ولعل لون الزام بين ألوان “زليج” فاس.
ولعل الزام بين الروائح التي تتسكب مع مطر الصيف قي الحويض.
———————————-
مسقط في الثاني من يوليو ٢٠٢٣م

زر الذهاب إلى الأعلى