في بيت النسَّاخ محمد الرمضاني آخر الماشين على خطى ابن مقلة وياقوت والضحاك

حمود السيابي

بقلم / حمود بن سالم السيابي

هذا آخر الماشين على خطى ابن مقلة وياقوت الرومي والضحاك وابن حماد والشيخ هلال الرواحي.

وآخر النسَّاخين العمانيين بعد الشيخين سالم بن حمد الحارثي وعبدالله بن أحمد الحسيني

وآخر الكيميائيين الذين حملوا شجر القرط وسهاد القناديل وكهرمان الصمغ العربي ليملأوا المحابر مطراً أسود.

أمضى النسّاخ الشيخ محمد بن حسن بن محسن الرمضاني طفولته في “الحبَّاس” السمائلية الغامسة قدميها في الماء ، ليستلَّ من قصب “روغ” الوادي قلمه الأول.

وطرقَ الخط العربي بابه دون موعد فسكنته روحانية المداد الذي يزهر في “التعاريف” العابرة من وإلى الفيحاء ، والمتلفعة الفرح بعودة ذائب في الغربة ، أو المزغردة بالتهنئة بشفاء مريض كتب الله له أن يعيش العيد وسط عائلته.

وكان يتأمل خطوط “التعاريف” كلوحات نادرة ، ويتنفَّس مدادها كزهر فوَّاح.

وبين التأمل والتنفُّس استدعت ذاكرة ال”دي أن أي” سيرة جد ِّجده الذي عمل خطاطاً زمن الإمام أحمد بن سعيد لتصحَّ نظرية “عِرْق المداد دساس” وأن هذا الشغف بالتعاريف له حنينه ومرجعياته.

لقد كبر عشق الخط معه ولم ينغصها إلا مرض أبيه الذي كسر ظهره وأوشك أن يكسر قلمه.

أسرع بأبيه إلى مستشفيات البحرين لعل ما بين نخيل الفيحاء ونخيل الزلّاج بعض الرحم ، وبين “عين ورد” و”عين عذاري” توأمة الماء.

لكن مشئية الله اقتضت أن يوارى الثرى هناك في ظل نخلة باسقة فعاد من المنامة دون أبيه.

ضاقت سمائل بالرمضاني فحمَلَ أشلاء تفاصيله ليلقيها بجوار أرحام له في بلدة “سرور” المجاورة فلاذ بهم لينسى “الحبَّاس” وليبعد عن الدروب المنضوحة بضحكات أبيه.

كان ذلك في مطلع سبعينيات القرن الماضي يوم زحف الشيخ الرمضاني شرقا نحو حارة “نطايل” ومعه صرير القلم والمطر الأسود والحلم بأن يحترف النسخ ، وأن تقرأ السبلات اسمه في خواتيم الكتب مشفوعة بعبارة محمد الرمضاني السمائلي السروري ، لعله يجلب بذلك السرور لأبيه في مضجعه النائي وليسترد ذكرى جده الأول زمن الإمام أحمد بن سعيد.

وفي غمرة شغفه بالنسخ تصادف أن كان في حضرة سيدي الوالد وهو يبحث عمّن ينسخ له مسودات كتبه قبل أن تدور عليها ألسنة المطابع ، فتلاقى صرير قلمه بصهيل خيول أبي في الزمن المطرحي الزاهي.

يشير التاريخ إلى العام ١٩٧٦م. يوم ركض قلمه الروغ على صفحات كتاب أبي “الجواهر المنظمة في الخيل المسومة”.

كانت بداية الركض محفزة ليفسح لها المضمار مداه لتواصل أشواطها الطويلة لما يقرب من ١٧ عاما.

إلا أن الركض بلغ في العام ١٩٩٣م شوطه الأخير بخاتمة مستحقة تمثلت في نسخ كتاب أبي “النبأ العالمي في حياة الإمام السالمي”.

لقد رحل أبي ، وما زال بحوزة الشيخ الرمضاني الكثير من الأقلام والفائض من المداد ، فينتقل من مجرَّة أبي إلى مجرَّة شيخ له ذات الهمة في استنطاق الأمس ، فيضيف الشيخ محمد الرمضاني المزيد من الصمغ على خلطة مداده لتبرق حروف الشيخ المؤرخ سيف بن حمود البطاشي بما تليق بنسخ كتبه القيمة وإلى آخر كتاب للشيخ البطاشي وهو “الطالع السعيد نبذ من تأريخ الإمام أحمد بن سعيد”.

وفي العام ١٩٩٩م. يرحل الشيخ سيف البطاشي فيتخثر مداد الشيخ محمد الرمضاني وتتكسر الأقلام ، ليستمر في مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي بالسيب يتيما في غياب آبائه الكبار.

وفي عام ٢٠٠٧ يخرج الشيخ الرمضاني للتقاعد وفي ذاكرته عشرات الكتب التي ثعبت من سن قلمه لأهم مؤرخين عمانيين بعد الإمام الرضي نور الدين السالمي.

ولا يعود الرمضاني للخط إلا لأجل أن ينصت لصرير الأقلام وليستعيد زمن النسخ بكتابة الصكوك لإثبات الحقوق لأصحابها.

وفي التاسع من ديسمبر ٢٠٢٣م أعود بعد طول انقطاع لزيارة أشهر النساخين بصحبة الإبن مازن ، ومن توافق التواريخ أن تكون الزيارة في ديسمبر وهو الشهر الذي فقدت فيه أبي.

وكانت “سرور” في أجمل فصولها ساعة دخلنا سبلته ، فلا هي بالباردة لنثقل في اللباس ولا حارة فتهبُّ مروحة السقف على رؤوس الجالسين.

احتفى بنا الرجل وقد تذكَّر فينا الأب واستذكرنا فيه زمن نسخ كتب والدنا.

ما زال الرجل مسكوناً بروح الدعابة وهو يستعيد ذكرياته مع سيدي الوالد رغم تشكِّيه من بعض الأمراض ومن خذلان الإبصار.

أطالع يمناه التي قبضتْ على جمر الكتابة مذ عرف الكتابة وإلى زمن النقر برؤوس الأصابع على لوحات المفاتيح في الهواتف والحواسيب.

كان جيل الرمضاني يتبارى في جمال الخط ، بينما جيل اليوم يتسابق لتسجيل أكبر السرعات في النقر على الأحرف برؤوس الأصابع.

أطالع لوحة حروفية في الخزانة المقابلة فيقول إنها “بخط إبنه وأنه الأحسن منه خطَّاً”.

ولعله بجمال خط ابنه يؤكد لنا أن جده الأول لم يمت ، فقد عاش في جمال حروفه ، وكذلك سيعيش هو في جمال حروف أبنائه بعد عمر طويل.

ويتناول صورة ثانية وفيها يتخذ من ركبته مسنداً للكتابة فنتذكر وصية إمامنا الرضي الخليلي للمتعلمين في مدرسته.

وصورة ثالثة وهو في “الحبَّاس” بسمائل أو “منازل الخطوة الأولى” حسب تعبير شيخنا وأستاذنا سيف بن ناصر الرحبي.

وصورة رابعة وهو في صحن الكعبة المشرفة مؤدياً العمرة.

تحدثنا مع الشيخ محمد الرمضاني عن الخطوط والأقلام والأوراق ، وبين فينة وأخرى نطالع هواتفنا التي قتلت الخطوط وكسرت الأقلام وحرقت الأوراق فنحاول عبثا إسكات رنينها ، والأصح أنها التي تسكتنا برنينها.

وقبيل انطلاق أذان المغرب ودعنا أبا حسن الرمضاني وغادرنا صومعته المتخثرة بالمداد ورائحة القرطاس.

ومع ابتعادنا عن عتبة بابه كانت أراجيح نخيل “نطايل” تتثاءب على تعويبة فلج “الحيلي” الدافق ، فرفعنا أكف الضراعة برشة مطر تغسل وعثاء “المتق”.

وألححنا في الدعاء لأن يمد الله في الأعمار ، فهذا آخر الماشين على درب ابن مقلة وياقوت الرومي والضحاك وابن حماد والمشايخ سالم بن حمد الحارثي وعبدالله بن أحمد الحسيني وهلال الرواحي.

—————————-

+26

كل التفاعلات:

٣٤٣٤

زر الذهاب إلى الأعلى