في قرية بني صبح أستعيد الرضي السالمي حيث تسابق شجر الأمباء لتقبيل العمامة البيضاء

حمود السيابي

——————————
حمود بن سالم السيابي
——————————-
اِخْلَعْ نعْليْكَ فأنت عند “صوار” فلج البستان بقرية بني صبح حيث السماء اسْتَبَقَت الغروب فَدَلقَتْ ميازيب ضوء.
اِخْفِضْ صوتَك فلربما الملائكة في حال الرواح والمجيئ بين السموات البعيدة وهذه البقعة بلا توقُّف منذ الثامن عشر من صفر سنة ١٣٣٢هـ. وإلى ما يشاء الله.
هنا مرَّتْ غيمة ذات زمن خرج من الزمن فلم تجفل من الغتل المتعدي على الطريق لتتآباه فهي مسيَّرة لا مخيَّرة.
وكانت الغيمة مأمورة فتيامنتْ جهة الشجر ولو أنها زحفتْ بمقدار أشبار لما كان ما كان.
وكان خير الزهاد على “شداد” المطية أو الغيمة السابحة لكنه اشتغل بذكر الله عن روائح الثمر فلم يتقِ دلَّايات العناقيد. واستغرقتْه الأدعية فلم ينصتْ لحفيف الأغصان ، ولا اهْتَمَّ بحساب المسافات مع مصادر الصوت.
دخل موكب النور قرية بني صبح من جهتها العلوية مارَّاً بمسجد الإمام الحواري وحارة العالي بصباحاتها المشرعة وسبلتها التي لم تبرد دِلالُها.
واقتربَ الرَّكبُ من حارة السافل العالية بأهلها وبمسجدها العالي وسبلتها المضيافة وفلج البلدة الدفاق.
وقبل أن يبتعد الركب عن سبلة حارة السافل بأذرع تسابقتْ أغصان الأمباء لاغتنام لحظة فارقة لن تتكرر بتقبيل عمامةٍ ببياض السحاب وبمصافحة وجه من أهل الصلاح
إلا أن الأغصان في غمرة تسابقها للمصافحة طرحتْ المنزرع على السنام أرضاً ليجاور صوار الفلج فتَشْرق القرية بالأدمع وتتقطَّع بأمواس الغصص.
لقد انتقلت قرية بني صبح من حال الابتهاج بالقدوم إلى الحزن بالنتائج.
وكان المشهد موجعاً فالحزانى حوله يعتصرون القلوب وهم يشاهدون مورد الماء يبكي مورد العلم.
أقف والابن مازن حيث تناثرت نجيمات من الدم الزكي فحولت بقعة الأرض إلى قطعة من السماء.
هنا … وكما يشير الشيخ هلال بن سالم بن راشد الصبحي في أكثر من مرة وفي غير مناسبة بأنه شاهد بأم عينيه الأنوار وهي تتراسل بين الأرض والسماء.
ورغم انقضاء ١١٣ عاما على الرزء الجلل ما زال الكبار تخونهم الأدمع وهم يسردون ما حدث.
وتتجذر الواقعة في أذهان الصغار بتفاصيلها المتشابهة في “الأنشطة اللاصفِّية” وتتكرر بين وجع ووجع في طابور الصباح.
وما يغذي الذاكرة ان الأحداثيات على الأرض لم تتغير ، فمسجد الحارة مكانه على ذات الربوة العالية وإن شمله التجديد.
وسبلة حارة السافل على عهد الناس بها عامرة بالطيبين.
وصوت الماء في الفلج كما هو دون أن يعرف المتصنِّت لجريانه أيشتكي أم يبكي.
ووحدها “الأمباة” عاقبت نفسها فانخلعتْ من جذور الجذور لكيلا يعاف الناس شجر الأمباء.
ورغم أن التحقيق في حدث كبير كبر قامة ومقام وقيمة نور الدين كان يجب أن يتسم بالاحتراف ، إلا أن التماس الأعذار هو الذي ساد فلم يتسرب إلا ما سمح به شيبة الحمد السالمي في كتابه “نهضة الأعيان بحرية عمان”.
وجاء النَقَلَة بعده ليعتمدوا ذات الرواية لكون السالمي هو الأقرب للحدث بِبُعْدَيْه المكاني والوجداني.
وكان لافتاً تعمُّد الشيبة السالمي إغفال اسم صاحب “المطية” رأفة منه به لكيلا يسائله التاريخ.
ولا ذكَرَ الشيبة السالمي اسم “الطَّناف” لكيلا تلوكه ألسنة المشاعر الغاضبة.
ولا حدَّدَ السالمي نوع الراحلة لكي يموِّه على صاحب الناقة المملوكة لفلان والبعير الذي يمشي بإمرة الطنَّاف علان.
ولا أشار الشيبة إلى أسباب اختيار دخول موكب الرضي نور الدين البلدة عبر هذا الجهة بالتحديد طالما أن الرضي السالمي سيبيت ليلته في الفلوات المفتوحة دونما تقيُّدٍ بالمداخل.
ولا تطرق الراوي إلى اختيار هذا المسار أكان لقصر مسافته أم ليسر المشي فيه.
وفي التفاصيل أن الراحلة كانت في سيرها الاعتيادي حتى جاورتْ صوار البستان فاعترضتها شجرة أمباء.
وكان بمقدور الراحلة أن تخترق الغتل بسلام لو فطن “الطنَّاف” وأبعدها نحو اليسار ، أو طلب من الراكب الكفيف أن ينحني ليمر فرع الشجرة دون أن يصيبه فيتسبب في إسقاطه.
وأن سر انحناءات أغصان الأمباة يعود لاستخدام البعض لأفرع الشجرة في فتْل حبال “الزَّجُر” عبر تمريرها بين أركان تفريعات الشجرة.
ومع تكرار شدهم للحبال ازداد انحناء الشجرة وزاد تعديها على مسار الطريق.
ولكم تمنَّت قرية بني صبح أن تكون نقطة ضوء في صبح الإسلام فتخلد كممر لهذا العابر لدربها لأجل الإصلاح وتجنيب الأمَّة الاصطفافات والتحزبات.
ولكم تاقتْ قرية بني صبح لأن يمر برنامج الإمام السالمي وفق المخطط المعدّ فتفرش له الأهداب مهادا.
إلا أن مشيئة اللهِ اقتضتْ أن تُغْزَل ذات الأهداب آلة حدباء فيُحْمل عليها الإمام المصاب وَيُرْفَغ من “صوار الفلج” إلى محاجر العيون الخائفة عليه وعلى دولة الإمامة.
لقد احتشدت القرية عن بكرة أبيها ومن تسامع من أهالي القرى حيث يئن الإمام لتقتات ليلها الطويل الكئيب بين هلع ولوم.
بينما الرضي نور الدين السالمي كان يكابر وجعه فيسابق الزمن لإخراج قرية بني صبح من حالة الشعور بأنها العثرة في درب الوصول إلى الحمراء للقاء شيخ العلماء.
لقد أصر الإمام السالمي على إتمام الأمر الذي جاء من أجله ، فالتقى الشيخ العلامة ماجد بن خميس العبري في مكان ليس ببعيد من ذات البستان وذات شجرة الأمباء لتتحقق غايات العَالِمَيْن العَلَمَيْن العَامِلَيْن بتقريب ما تباعد من آراء ، وتوحيد الرؤية أزاء وصية القراءة على القبور بين الإنفاذ والبطلان ، ووجوب رجوع الأموال لورثة الموصي بالقراءة نظير أجر ، واعتبار تلك الأموال مجهولة إن تعذَّر الوصول للورثة.
ولأن المجهول هو لبيت المال فلولي أمر المسلمين حق التصرف به لعزة الدولة.
وبعد أن داوتْ قرية بني صبح المصاب بالوئام ، وتحقَقَ لنور الدين ما تمناه من توافق فيما أنفذ من أحكام استندت لبعض الأقوال.
وأن شيخ العلماء تراجع عن التخطئته على اعتبار ما تم من قبيل الاجتهاد.
هنا .. زُمَّتْ المطايا باتجاه نزوى ، فلربما استشعر الرضي نور الدين السالمي أن جروحه غائرة وكسوره لن تجبر فأراد الاقتراب من نزوى تخْت الأئمة مذ كانت ومذ كانوا.
غادر الركب قرية بني صُبح بعد ثمانية أيام على الواقعة أي في السادس والعشرين من صفر سنة ١٣٣٢هـ وهو بأتم الرضا عن قرية بني صبح وعن أهلها لتحقق المقاصد ، فكانت “تنوف” عند منتصف الطريق إلى نزوى ليستريح بها ثم يواصل المسير نحو وجهته.
وكما كانت إقامته في قرية بني صبح بين مكابدة للألم ومجاهدة لتبيان الحق ، كانت أيام “تنوف” أيام تدارس ونقاش لحسم بقية المسائل الخلافية العالقة.
وقد زاره في التاسع والعشرين من صفر الإمام الرضي سالم بن راشد الخروصي ، فَسُرَّ بأن رأى عليه بعض علامات التحسن.
وفي ليلة الخامس من ربيع الاول لسنة ١٣٣٢هـ فاضت الروح إلى بارئها ليدفن في “تنوف” حيث قُبض.
ولتكون ربوة الضفة الثانية لوادي تنوف هي الوادي الدائم الجريان دونما مطر.
وكما بدأتُ أختم بنداء اِخْلَعْ نعْليْكَ فأنت على أرض تنضحها السماء بميازيب ضوء كل غروب
واخْفِضْ صوتك فلربما الملائكة في حال الرواح والمجيئ بين السموات البعيدة وهذه البقعة بلا توقُّف.

زر الذهاب إلى الأعلى