نزوى واللَّيْلُ والصُّوَرُ

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي
أشتاقُ للأمْسِ فأسرعُ إلى لَوْنِ الفجر في عمامتك.
إلى غلالة العَصْر تتدرَّع بها حُصُونكِ وأسوار حاراتك وجُدُر بيوتك العتيقة في العقر وحارتي الوادي والسويق كل شتاء.
إلى تكلُّس الزمان في “قبوع” بوابة “شهبائك” وزخارف محاريب مساجدك وعلى سارية البيرق فوق مفرقك وفي تساؤلات مدافعك.
إلى “تعويبات” الماء في سواقيك العابرة للسكك والضواحي.
إلى دروب “البوش” تمخرها “السياكل” المحمَّلة بخيرات البساتين.
أنت جميلة يا نزوى في ضحكة النهار التي ترفد الشمس.
وأجمل في رهبانيَّة ليلكِ وأنت تبسطين سجادة أهدابك ، وتتلفعين “منسولك” ليهرب البرد من خطوات المهرولين إلى جامع العقر ومساجد الشواذنة والبشير بن المنذر والشجبي وسعال والفرض وبن روح والمزارعة.
جئتُ إلى ليلكِ هذه المرة لأستعيد “وَبَصَ” قناديل غرفة الصلاة بحصنكِ ، وعبق الفناجين في “رمْسة” المنصتين لمقرئ الإمام.
لقد حلَّ العتيمُ ومعه صخب الأضواء التي يثيرها حاضرك فأطبق جفنيَّ لأخفِّف بعض الوميض ولأبقى عند قمراء أَمْسِكِ الباردة.
اِنْتَبذْتُ نهاية رخامية تتكئ عليها شيخوخة الداخلين والخارجين من وإلى جامع العقر وأمامي حارة الوادي الشرقية بضجيج رطناتها وروائح نكهات مطاعمها الآسيوية فتجاوزتها لأقترب من بقايا حارتك القديمة وصباحات سكَكِ والشجر الذي يحتضن مسجد النصر وقهوة العتيم في سبلة أولاد صباحيه.
سيخرج الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي الآن في كوكبة من الأخيار الذين حلُّوا بمجرَّته من سماوات جهات عمان الأربع ولم تتسع لهم غرفة الصلاة بالحصن فجاء بهم إلى جامع العقر ليَؤُمّهُم لصلاة العشاء.
هذا طريق الإمام ، وسأنتظره لأصافح غرَّة السجود في إشراقة وجهه.
وهذه ساقية عطره وسأترصده هنا لأغمس “فرِّيخة دشداشتي”.
يبدو أن الصلاة طالت والإمام يقرأ من السور الطوال في الركعتين.
ولربما تباسط مع الجالسين في حديثٍ ذي شجون.
ولعلِّي أنا من تأخر كعادتي في تفويت المسارات التي تمشيها الملائكة.
ولربما خُتِمَتْ الصلاة وخرج المصلُّون واستردَّ الحديث شجونه.
سأدخُل جامع العقر لأصلي ، لربما الذين ازدحمت بهم صفحات كتاب نهضة الأعيان يخرجون من الصفحات ليصطفوا من جديد فنتزاحم كتفا بكتف.
سأصلي وكأنهم هنا ، فالعطر العالق في مواضع السجود يمثلهم.
وسأسجد على موضع سجود الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي ومواضع سجود من سبقوه ومن سبقوه ومن سبقوه.
وسأصعد المنبر لأستعيد آخر الواقفين من الكبار الذين تداولوا شرف الارتقاء ، وتناوبوا على إلقاء الخطب وآخرهم الطيب الذكر قابوس بن سعيد.
لن أخطب في سمْع الليل فمن أكون أنا.
لقد كفاني وكفا التاريخ الجميع بأولئك الذين وقفوا هنا وما زالت الأذهان تستعيد بريق الصور وجواهر النطق.
خرجتُ في صفٍّ من سناطوين الجامع وقد اتَّشَحْت هي وما سبقها من سناطوين بملامسة الأيادي.
ومشيتُ بطرف إبهامي لكيلا أدوس طُهْر حلقات الذكر ومختلف الملائكة ومراتع المشتاقين للجنان.
شَرُقْتُ بغُصَصِ ملح أدمعي وخرجتُ من ذات الباب المُتَّشح عطر الإمام ، وذات الرفصات التي تصعد به حتى وهو ينزل.
عبَرْتُ حَصَيَاتِ “وادي كلبوه” التي اكتستْ قطيفة من الإسفلت فدَحْرَجْتُ بطرف “وطْيتي” المدبوغة من جلد ثور أزمنة ما قبل قطيفة الإسفلت وطاولتُ بقصر قامتي صباحات السوق الغربي ، فلا بد لعابر الأماكن العالية من أن تُحْذيَه بعطر شموخها.
دخلتُ من الصباح الواقع بين البوابة الصغيرة للسوق وجدار الشهباء فتركتُ “برزة “ظلة العصر للشهباء على يميني وبيت العلامة الشيخ سعيد بن ناصر السيفي على شمالي وشخَصْتُ ببصري في عنفوان المدفعين لبوابة الشهباء ، بينما مسجد الشيخ قد أضاء سراج حلقة درس العلامة الشيخ منصور الفارسي.
دلفتُ من “نقشة” بوابة الشهباء وقد تناسيتُ صخبَ السُّياحِ وركَّبْتُ على المشهد دَوِيَّ المُدَارَسة في غُرَفِ المتعلِّمين بالحصن.
اِسْتَلَمَتْنِي الباحَةُ الخارجية للحصن المضاءة بأرْسان وصهيلِ الخيول وحفيف النخل.
دخلتُ بوابة الحصن فخلوتُ إلى ركن في “الرُّبُوط” ما زال يعبقُ بعطْر من انتبذه قبلي.
هذا هو الدرج الذي يرتقيه الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي إلى غرفة الصلاة وبرزة النهار ومخادع عائلته وخلْوَتِه الخاصة في “العِلِّيَّة”.
جلستُ ومعي نصف قرن من زمان الإمام الخليلي وسلسلة حقبٍ ودهورٍ لمن كانوا قبله من الذين ارتقوا ذات الدرج وسكنوا ذات الغرف.
يُخَرْخِشُ المُكَلَّفُ بإدارة وتشغيل المكان “شَكَالَةَ” مفاتيحه ليغلق الشهباء وحصن نزوى فهذا أوان هجعة المكان.
بكيتُ على مكان لم يقْربْ السهاد جَفْنَيْه.
خرجتُ من المشهد أجَرْجِرُ أحزاني ، وقد عاد الضوء ُوأصوات “الهرنات” وفحيح سيارات “الجولف” تختال ببن ضحكات الماشين وعبق المقاهي الصاخبة بروائح خلطات القهوة المستوردة.
إن ليل نزوى ما زال بلوْن الفجر رغم ضجيج ألوان لافتات المحال التجارية.
وبيوت العقر والسويق كالعهد بها تصطبغ بوقت العصر ونزق المغيب.
وما زال الكثير والكثير بنزوى بأوشحة الأمس البعيد وفِضَّة زينة مقابض السكاكين وحنيات العصي وأرسان الخيول والنوق ومواويل الماء.
لذلك أجيئ إلى ليل نزوى لأشحن روحي .
وأرتاد نهارها لأرى شمسها الباردة.
أجيئ لأستعيد وقفة أبي وتكليفه بالاستيقاف :
قِفْ حَوْلَ قَلْعَةِ نَزْوَى وانْشِدِ الباَني
هَلْ اسَّسُوهّا على رضْوَى وثهْلانِ

وانْشدْ مَعَالِمَهَا العَلْيَاءِ كيْفَ سَمَتْ
وقدْ عَلَتْ هَامَ “بهْرَامٍ” و “كَيْوَانِ”

وانْشدْ مَعَاهِدَها الشَّمَّاءِ حيْثُ غَدَتْ
ميمونة الشَّأْنِ في حُسْنٍ وَإِحْسَانِ
—————————

زر الذهاب إلى الأعلى