في قلعة الميراني لأتقصَّى.. أثر سمائليَّيْن سقطا فارتفعا

حمود السيابي

بقلم / حمود بن سالم السيابي

أكادُ لا أصدِّق أنني وأطفالي في قلعة الميراني سَقْف مسقط العالي ، وأن المدينة بحدِّ الشُّوف بيضاء كضيافة قصر العَلَم.
وأننا بلا خوف نُمْطِر مسقط بالصُّوَر من عُلوِّنا الشاهق ديمة تِلْو ديمة.
وأنَّ سيَّاحاً من الجهات الأربع استقلوا معنا المصعد وبحوزتهم كاميرات ذات “زوم” يكاد يخترق سكينة البلدة وينفذ إلى ما بعد بعد بعد نوافذ بيوتها وستائرها المُسْدلة.
أكادُ لا أصدِّق أننا على ذات المسافة من قلعة الجلالي المقابلة فَنَهُزّ شجر القلعة ونعصف ثمر الأغصان لنطعم الطيور الحائمة فوق الرؤوس.
أكادُ لا أصدق أن “مسكد” تفتح حصونها وهي إلى عهد ليس بالبعيد ترتعد فرائص زوارها وتتحشرج حناجرهم إن جاءت الألسن على ذكر اسم كوت من كيتانها، وكانت تغلق على نفسها كل عتيم لتلزم الماشين بسككها الهامسة وجوب حمل قنديل زيت تشرب الفتائل نصفه لتوسُّل بعض الوَبَص وينكفئ نصفه الآخر على ثياب الماشين لتعافهم الهوام ، فتسمح اليوم بهذا الصخب الذي يتحلق حول كؤوس الليمون بالتوت الأزرق وحلوى الحوسني ولقيمات بائعة من أسلاف المسقطيات المكافحات تحت ظلة السعيدية.
هأنذا في مسقط رفقة أولادي وأحفادي في الميراني لنعيش الروح الجديدة للبلدة الخارجة من كتاب “عمان أيام زمان” للشيخ مرشد الخصيبي ، ومن المجلدات الستة لوثائق عمان السرية لمحمد الحارثي.
ولعل الفارق بيني وبين من رافقني الصعود لسقف مسقط العالي إنهم جاءوا ليفتتنوا بجمال مسقط الآسر فيكثروا من ترديد “واو” على التفاصيل ، وليخرجوا بمحتوى تصويري يتهادوه مع رفاق العمر.
وجاءوا بذاكرة بيضاء كقلوبهم وكطلاء بيوت البلدة دون أن يثقلهم التاريخ بغصصه ومنغصاته ، بينما جئتُ لأتقصى أثر سمائليين عظيمين صعدا هنا لأجل تسوية لم تتم فلم يهبطا.
بدأنا المشوار رفقة ضحكات من لا زالوا في بهجة العيد يخرخشون جيوبهم بالعيدية فبدأوا التصوير من النقطة صفر ، بينما أتْعَبْتُ عصاي وأنا أطرق الجدران بطرفها المُفَضَّض من “المسافة صفر” أيضا ، لعل الشيفرات السمائلية وهي تتراسل ستستقبل الإجابة على أسئلتي وأسئلة التاريخ.
ومشيت بترسبات أمسي الخائف من آذان الحيطان فلمحتُ بعض الاختلاف في لمسات البنَّائين لأحد الجدر.
اقتربتُ لأتحسس الاختلاف وأنا أردد : لا بد أنهما هناك خلفه.
عاودْتُ شيفرة الطَّرْق ولكن بلا إجابة للأسف.
وتوقفتُ عند بعض الشحوب في صخور شربتْ أدمعها حتى ابيضَّتْ من الحزن فكفكفتها بأكمام دشداشتي ، لعل ضالتي هناك ، لكنهما اِسْتَفَّا نثار الزمان فتنفسته معهما وزكمْت.
وبينما واصل رفاق الرحلة توزيع “واو” على الزوايا وهي تستحق بكل تأكيد ، اعتصرتُ ذاكرتي في استحضار الأزمنة والعمائم والمكائد ودسائس الغرباء والعهود التي يجب أن تستوفى وأنا أهيم في مرافق القلعة التي دخلتْ تاريخنا بانتصارنا على الغزاة الذين فروا إلى ما وراء البحر وعادوا إلى ليشبونة يتجرعون علقم الذل وتجرحهم أمواس الهزيمة.
ما زلتُ أجَرْجرُ الخطوات فأقترب من نتوء تلفَّع برداء الظلام ولوَّحْتُ مجدداً بطرف العصا لأبعثر الفيزياء وأنا أردد مع أبي مسلم : “ألا فاغضبي يا غارة الله” فلم أجد للأسف من يكمل معي ميمية البهلاني.
أطالعُ رفاق الرحلة وبأياديهم كؤوس التوت الأزرق المشبع بالثلج فأنتقل صوب تجويف تكثف فيه الليل رغم أن المساء لم ينعس بعد ، فلعل رجال ذلك الزمان أرادوا حذف السمائليين العظيمين من تقويم سنة ١٢٨٧هـ فَأُلْقِيا في غيابة جب القلعة لكنهما ارتفعا ليتربعا فوق منصة من لؤلؤ على سطح أكبر نجمات مجموعتنا الشمسية فتتعامد فوق بيت السبحية ليستمرَّا في تقويم سنة ١٢٨٧هـ وما تلاها من تقاويم السنوات.
ولربما اخْتيِرتْ لهما تلك الخاتمة ليظلا هناك فيجنِّحا دوما فوق سماء سمائل أو سمائيل أو سماء الله ، حتى إذا ما اشتاقا لصلاة الفجر في مسجد رجب نزلا ، وتلك من أمانينا لا من تراتبيات دورة الحياة.
وعند هذه المسافة من الميراني الشامخ أكملتُ الطرق بطرف عصاي على جدران لا وزر لها.
ولزمنٍ عمانيٍّ زاهرٍ لا ذنب له حتى اقترب المساء ومسقط على سطوعها المعهود ، فليلها كنهارها.
وأطالعُ البيرق السلطاني وقد أُنْزِل من سارية قصر العلم على أن يرتفع مجددا مع فجر الغد وفق البروتوكول السلطاني ، فيما تطرزتْ حواف قلعة الجلالي بالإضاءة لتبدو كتاج من الذهب والجواهر الكريمة على الرأس الشامخ لمسقط العامرة.
وكذلك السكك التي كانت تساق بطبلة “النوبة” وتضاء بأحزان القناديل هاهي تنبض بالنور في زمن باني النهضة قابوس الخالد ، وفي عهد مجدد النهضة مولانا الهيثم المعظم.
ولقد استشعرتُ العطش وأنا أعود إلى النقطة صفر ، فبعض التاربخ حين يستعاد يُسْتفَّ معه الكثير من الملح ليذبحنا الظَّمَأ.
ولكن الميراني العابر لتفاصيلنا المحلية لن يتوقف عند الغصص والمنغصات فلديه ما يشغله كونه الشاهد على قضايانا الكبرى المجللة بالانتصار مع توأمه الجلالي ومعهما قلعة مطرح وصيرة قريات وحصون الساحل العماني وفي ذلك الكثير من المواساة.
والفخر كل الفخر لذلك العماني الباني للجلالي والميراني والشهباء والحزم وجبرين وتنوف وبيت سليط وبيت الرديدة وحصن العميري وقصبة صحار وقصر العلم وقصر وقصر الحصن وحصن الشموخ وحصن الأسود وحصن الخندق.
———————————

زر الذهاب إلى الأعلى