عند “وادي الجِبَة” في أغزر هبطاته

حمود السيابي

——————————
حمود بن سالم السيابي
——————————
تحت جبل “خونية” هناك بليْدة صغيرة على ضفاف “وادي الجِبَة”
وبقايا “عوابٍ” تخضرّ وقت المطر.
ومدامع فُلَيْجٍ تعتصر أشواقَها مع كل هبطةٍ لوادي الجبة.
ويبقى وجود الشيخ الدكتور عبدالله بن راشد السيابي هناك أهمّ وأجمل ما بالضفاف ، لِيَصْدُقَ فيه بيت العلامة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري:

مِنَّا الوُلاةُ وَمِنَّا الجُبَاةُ
وَمِنَّا القُضَاةُ وَمِنَّا أَنَا

ولكم تشتاق الأنفس للعودة إلى عمانيتها ولنقاء أمسها ، فتنتزع من خزين الذاكرة حلقات علم ترْتَع فيها الملائكة ، ووجوها تسطع مع الشمس ولا تغرب ، و”سبلات” كانت ملء الأيام قبل أن تخرج من الخدمة وتندثر مع مواقد قهوتها.
وكان لقاء “وادي الجِبَة” الذي شَرُفْتُ بحضوره مع سادتي الأجلاء فيه الكثير من الأمس الذي اشتقتُ إليه.
كان الوقت قبيل “سُلَيْمات الشَّمس” لحظة استقبلنا الشيخ الدكتور عبدالله بن راشد السيابي عند “رِزّ” باب حديقته المعلقة فأخذنا في ديمة من عبق المواسم ورائحة طين الأرض تاركاً الدكتوراه مكانها إلى حين فالحديث مع النخل حديث “الهيب والمسحاة” و”سحاليف الكرب” وسِلَّاء “الشراطة والتنبيت والتحدير” وخرير السواقي.
يتوقف الشيخ عبدالله بن راشد عند “نغالة” تدلَّتْ “عسوقُها” فيشير بفرحة طفل إلى “الباسوم” وقد بدأ يصْفَرّ وعلى وشك أن يتضاحك ف”يَرْطبْ”.
ويلفتُ الشيخ الانتباه نحو نخلة “قِدْمِيَّة” تسبق “النغال” وقد تلفَّعَتْ شماريخ “عسوقِها” بشباك “النايلون” لكيلا تؤذيها الطيور ، لكن الفارق في المذاق يحتفظ للنغال بعرشها.
ويقف الشيخ وزوّارُه عند “هلالية” فارعة بجوار “نغل هلالي” ثم “هلالي الحساء” ولكن لون الذهب سيكون الأرجح بين الأصناف.
ومشى بنا نحو “خلاصة” فتوقف الكلام عند خلاصة الرطب بل خلاصة القيظ كله ، وإن ظَلَّ الذوَّاقة على تشاحّهِمْ بين “الخلاص والخنيزي” ليبقى رأي أبي وسيم رمَّانة الميزان بعد أن وضع “القمرين” على الكفَّتين لا راجح ولا مرجوح:

“خزنَ الورَى من كنْزِهِمْ ياقوتَهُ
‏لمَّا غَلا فَلِذا دَعوه خُزَيْنيِ

‏ورأى الخلاصَ مقدماً لخُلوصِهِ
‏بعض رويدك مثل عيني عيني

‏وإذا تطاولَ ثالثٌ لهما فدعْ
‏سوطاً يقارعُ صارميْنِ اثْنَيْنِ

‏كلّ النخيلِ بها العيون قريرة
‏لكن ذيْن أقرَ للعينينِ

‏كل النجوم بها السماء منيرة
‏والنور كل النور للقمرينِ”

ويأخذنا التطواف نحو نخلة “زبد” وأمامها عدة أشهر ليبرق الكهرمان في رطبها تحت الشمس ، فيسوق الخال الشيخ علي بن خلف بن محمد الخروصي محاججة دارتْ زمن الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي بين من يرى “الزبد” أفضل من “الهلالي” ومن يرى العكس فتصادف أن كانت على سطح المندوس حيث يجلس المتحاججون صينية تبرق بالهلالي وأخرى تسطع بالزبد فحسم الإمام بالنداء بإحضار صينية الزبد فَسُرَّ “الزبديون” ثم نادى بصينية “الهلالي” فثبتت الرؤية:

“و إذا لم ترَ الهلال فسلِّم
لأناسٍ رَأوهُ بالأبْصارِ “

لكن هناك من لم يسلِّموا وإن رأوه ، لذلك حمى وطيس الشعر في معارك السبعينيات من القرن الماضي حول الزبد والهلالي وما تزال الحرب على أوارها ولن تتوقف مالم تتجاوز طول داحس والغبراء.
وينقلنا الشيخ عبدالله بن راشد السيابي لنخلة “لزاد” في حديقته المعلقة بوادي الجبة فعقَّب أحد الحضور بأن بعض رطب اللزاد من النقاء بحيث يبدو أشفّ من الزجاج ولكن وقته لم يحنْ بعد.
ويتحدث الشيخ عبدالله بن راشد السيابي بحرقة وهو يقترب من “صرمة” لنخلة كريمة مهداة من زميله في القضاء الشيخ القاضي سليمان بن عبدالله اللويهي وقد رحل الرجل لتبقى هديته عطر القيظ تُذَكِّرُ به لتبكيه المسامع فتردِّد مع الشيخ عبدالله السيابي مرثيته فيه:

“إيهِ دنيايَ كَمْ صَرعْتِ عَظيماً
وأذَقْتِ الشرابَ مُرَّاً مَشُوباَ

وتَحَنَّيْتِ حينَ أزْهَرْتِ عَيْشَاً
مُطْمَئِنَّاً يُرَى ومَرْعَى خَصِيبَا

ودنا الماشون من نخلة بدتْ عليها أمارات “الجنون” فجذعها يوشك أن يَعْوَجّ ولربما تحتاج يوما لموكاب ليستقيم الظل إن ضمن استقامة العود.
ويتساءل الشيخ عبدالله بن راشد بعفوية عن صرمة في حديقته مبتلاة ب “قعو” تسلَّطَ عليها واستوطن “غدرها” وكانت مشورة أحد الحاضرين أن “يُخْشِيهِ” بضربة متقنة ب”الخصين” لكيلا يؤذي “القعو” أمَّهُ إذا كبرا معاً.
واقتربنا من نخلة “البرني” وهي محل رضى الكل رغم أن لحاء رطبها لا يسمن ولا يغني من جوع ، لكن تمرها قليل السعرات الحرارية.
ويُشاع أنها من أسلاف النخلة التي هزتها السيدة العذراء فتساقطتْ رطباً جَنِيَّا فأكلت وشربت وقرت عينا.
أما تلك التي بدأ يخضر خوصها من جديد فقد تعافتْ بعد مرض نغَّص عليها حياتها طويلاً وكدَّرَ زارعها فآن لها أن تُعْجِبَ الزُّرَّاعَ بعد حرقها إثر مشورة من خبير ، لأنّ آخر علاج النخل الحرق كما هو آخر علاج الانسان الكي.
ونكاد نختم تطوافنا بحديقة الشيخ بنخلة “الخصاب” خاصبة الموسم وبها “يتربَّع” القيظ.
لكن “فرض” سمائل يتمايل بالخير من بعيد في حديقة الشيخ فهو رائحة آبائه في الغبرة الخضراء بالفيحاء وبتمره الأسود المقلود كحاجب حسناء مسك ختام الموسم.
ومع اختفاء قرص الشمس خلف جبل “خونية” سطعتْ عمامة الشيخ عبدالله لتتداول البهاء فتبعنا الشيخ نحو المجلس لنؤدي صلاة العشاءين بإمامة الشيخ عدنان بن ناصر العوفي إمام جامع آل البيت فأعاد للأسماع قراءة صلاة التهجد في رمضان.
وبانتهاء الصلاة كانت هناك مباحث فقهية وتاريخية وأدبية بين سيدي الهلال والشيخ والحضور ثم قراءة للشعر فتعطرت الأسماع بقصيدة سيدي الهلال بن سالم السيابي في المقام النبوي قرأها الشيخ عبدالله بن راشد السيابي:

“سلوا البارق المكي عن وجدي المكي
فيا ربما تحكي البروق ولا نحكي

أرى في اضطراب البرق خفق جوانحي
إذا ما أضا بين الحجون إلى النسك

وألمس في أنوائه نوء مدمعي
يسيل بماء القلب عتكاً على عتكِ.

ثم أعقبها الشيخ عبدالله بقراءة أرجوزته فيض الأنوار في الصلاة على النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه مع وقفات من الشيخ لتفسير بعض الأبيات:

الحمد لله الذي قد رفعا
ذكر النبي المصطفى وشرعا

لنا الصلاة والسلام الأكملا
عليه إذ شرفه بين الملا

فأوجب الصلاة والسلاما
حقا نؤديه له تماما

في سورة الأحزاب نص الذكرُ
وهو لنا من الإله أمرُ

صلى عليه ربنا وسلماَ
كذلكم ملائكٌ من السماَ

وعند الساعة الحادية عشر ليلا انفضَّ السامر وانطوتْ ليلة عمانية أعادتنا لآبائنا ومزارعنا وطيننا ونخلنا وسبلاتنا.
أعادتنا لأمسٍ افتقدناه.

زر الذهاب إلى الأعلى