بدعوة من شلَّال “بادجاستين”

حمود السيابي

بقلم / حمود بن سالم السيابي

كل المدن تحتكم للفوائد الخمس للسفر إلا “بادجاستين” المفتوحة الآذان والمسام لوشوشات “الأسفار الطويلة لولا الوصول”.
وكل المدن تستفتح بلافتة مرورية تفيد بتآكل المسافات إلا “بادجاستين” تعاكس مسلَّمات السفر فلا تنتهي الدرب إليها بل تظل رفيقة الدرب التي تنتظر عند السفح فتتعطل عند ثغرها الخرائط وتتداخل المسارات وتضطرب محركات السيارات.
وتحمل “بادجاستين” القاصد لعينيها على مرقاة من غمام فترتفع به نحو طبقات الجو العليا وإلى حيث يولد المطر.
والمسافة من أخمص قدم “بادجاستين” إلى جبينها العالي هي بمقدار رفَّة هدب تتبعها إغفاءة التأرجح خارج نطاق الجاذبية فإفاقة على رعود ألف ميزاب وأكثر موصولة بالسماء ، إلى أن يكتمل الألف متر من الارتفاع.
و”بادجاستين” في الجغرافيا النمساوية هي على الممر التجاري القديم لوسط جبال الألب حيث الخطوات المدفوعة بالبحث عن الذهب اقتسمت الغنائم لتبقى التجاويف المسكونة بالخيبات.
وفي التبعية التاريخية كانت “بادجاستين” وواديها وقراها جزءاً من “دوقيَّة بافاريا قبل أن تنتقل إلى ملكية النمسا بالشراء عبر أمير سالزبورج حسب “جوجل”.
أما في الأطلس العاطفي فهي بوح الماء من فم أهم شلال في العالم يهدر تحت “درايش” البيوت و”شناشيل” الفنادق وإطلالات المقاهي.
و”بادجاستين” لأغراض الاستشفاء فهي مقصد الأباطرة والملوك والأمراء والأثرياء والشعراء ليذيبوا في ينابيعها الساخنة ومياهها المعدنية ترهلات الجسوم وأدران الأنفس والمنغصات التي تتركها السياسة.
وقد جئتها صحبة فيصل ومازن وهيثم بإلحاح من هدير شلالها القادم من ذوبان الثلوج وينابيع المياه الحارة والباردة وعصارات السنديان والصفصاف والصنوبر وشجر الغار وزهور “اللافيندرا”.
وكان علينا أن نشرئب بأعناقنا جهة مصادر التسكب القادمة من ٣٤١ مترا قاطعة ثلاثة مراحل لتندفع معا عند المرحلة الأخيرة.
وأن نتحدث بالإشارة ونحن نقف فوق جسر الشلال الذي يعود تاريخ إنشائه للعام ١٨٤٠م. بعد أن اختطف هدير الشلال الكلام من الشفاه وهيمن على كل المؤثرات الصوتية من صفير الريح إلى حفيف الشجر إلى رنين جرس الكنيسة إلى حوافر الخيل وصرير عجلات الهوادج والعربات.
ورغم أن النمسا جميلة منذ الكيلو متر الأول وحتى الكيلو متر الأخير إلا أن “بادجاستين” خلاصة أجمل ما ببحيرة وجبال “زيلامسي” وأرق ما عرف عن بحيرة “هلشتات” وأصفى ما اشتهرت به مياه بحيرة “وولف جانج” وأروع ما تتجشم إليه الأنفس من عناء الصعود لقمم “كابرون” وهضاب “كيزبوهل” لتتلاقى كل هذه المفردات فتتشكل خلطة سحرية استثنائية تسمى “بادجاستين”.
وليس الشلال وحده الذي يأسر النظر ولا الوادي الذي ينساب فيه ، بل الإنسان الذي رصَّع المكان بجواهر المعمار المستلهم لحضارات أوروبا فجعل من واجهات “بادجاستين” جداريات رسم وألوان وموسيقي يتلاقى فيها الشجر والحجر ومساقط الماء.
وتترصع حواف شارع القيصر يوسف وهو أكبر مسارات البلدة بسلسلة من واجهات القصور والفنادق والمتاجر التي تبرق ب”البراندات”.
ولا بد من أن تتسمر العيون وهي تتأمل شرفة فندق “ثيرمال” ومنتجع “اليزابيث” ومقهى “جاجر هوسل” المزدان بأعلام دول كأس أوروبا فالمبنى الذي يحمل اسم “ميران هاوس” وفندق “جراند دي يورب” لؤلؤة فنادق البلدة الذي حجز يوم وصولنا لصالح فرق تصوير فيلم سينمائي.
وبين أجمل إطلالتين فندقيتين يندفع شلال “بادجاستين” فلا يدع نزلاء فندق “باد شلوس” القادم من العام ١٧٩١م يخلدون في النوم لولا الجدران العازلة للصخب رالزجاج الكاتم للصوت ، ثم فندق ستروبنجر الذي يتخذ من بناية قادمة من العام ١٨٤٠ مقر له.
ثم تتواصل البلدة عبر مفردات تتبارى في الأناقة فنتوقف عند فندق “الميرابل” بمبناه الحنطي فمبنى “بندسلاد” بواجهته الخضراء فكنيسة “سانت بريموس الكاثوليكية والمبينية بين ١٨٦٦ و ١٨٧٧ بقرميدها الأحمر وبرجها الذي يطاول مصادر الشلال القادم من السماء وعشرات البيوت والقصور والاطلالات التي تنافس بعضها وتتسابق في صنع المتعة البصرية.
أجلس في شرفة “ستروبنجر” فتهرب مني الجهات الأربع ، فالشمس توارت ومعها الشرق والغرب.
وتكررت الجهات المحيطة بنا لتنتهي بقمم خضراء كمواكيب للأفق الرمادي البعيد.
انتظرتُ ديمة مطر تتقشع لتتحدد الجهات ففتح العابرون مظلاتهم لتنتهي الديمة الثانية دون أن تتبدد الغلالة الرمادية فوق الرؤوس بل تبعتها سلسلة ديمات ومظلات تحتضن الضحكات.
ووحده الشلال يعرف الوجهات من المنبع إلى المصب ، وعلى “بادجاستين” أن ترتب الجهات.
أعود إلى فندق “ستروبنجر” الذي يدار عبر سلسلة فنادق جراند فهو يستقبل زوراه ب”جرامافون” قديم فأصوات الماضي تجيد الاحتفاء.
وفي الاستقبال تتألق طابعة قديمة من مقتنيات القرن الماضي بينما الغرف ما تزال تدير قرص الهواتف القديمة لتتواصل مع إدارة الفندق والمحيط الخارجي.
ولأن “بادجاستين” تترنح بين الحلم والحقيقة فقد أفقنا على نهار جديد كان فيه صوت الشلَّال يخفت كلما ابتعدنا باتجاه “كابرون” و”زيلامسي”
بينما الشاعرة النمساوية جيسلا سيبرت توشوش الأسماع:
إبْقَ هنا
دعْ لي ذاكرتك
وما تفكر به
دعه معي
في الحاضر.
——————————
بادجاستين -النمسا- في ٢٠ يونيو ٢٠٢٤م.

زر الذهاب إلى الأعلى