لأجل طفلة بعمر يومين أنزلوا لافتة اسم الأميرة سالمة من ساحة “أولينهورست” بهامبورج

حمود السيابي

—————————
حمود بن سالم السيابي
——————————
“غيرَ أنّ الفراشةَ مثل الأميرةِ
في لحظةٍ وبكلِّ مَهابتِها
تنحني وتطير” !.
لم تكن أميرة الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف وحدها التي طارت قبل أشهر من رحيله في لندن.
بل الأميرة سالمة هي الأخرى اِنْحَنتْ وطارتْ بكل مهابتها من أجمل الساحات في هامبورج بعد أن حملت الساحة اسمها لعامين.
أهو حظ الأميرة مع التاريخ ، أم أن العابثين الصغار يفتشون في الأوراق القديمة ليكتبوا تاريخهم؟.
جئتُ ساحة “أولينهورست” في أكتوبر من عام ٢٠٢١م صحبة مازن وسالم وهي تتلألأ باسم وسيرة إميلي رويته.
وهنا وقفتُ ذات خريف واللافتة كانت تتدلى وقد كُتِبَتْ بأحرف بارزة تشير إلى ساحة “إميلي رويته” وتحتها لافتة أخرى تسرد في سبعة أسطر حكاية الأميرة وسبب مجيئها لهامبورج ومؤلفاتها وانتهاء بوفاتها في بلدة “يينا” الألمانية.
أطالع العمود الذي كانت تتدلى منه اللافتة وقد أنزلتها ضغائن بعض الساكنين في حي “فينكيناو”.
ما ضرهم لو تركوها لتترحَّل عبر القرون فتدخل ساحة “أولينهورست” التاريخ؟.
ولتتكرَّس في خرائط هامبورج وسجلات سائقي التاكسي؟.
ولربما تستلهما ريشة فنان فتتكرر الساحة وقناة “الإلبا”.
أوتدخل ضمن جملة موسيقية ينزفها مفتاح بيانو.
لكن المسكونين بالصغائر دخلوا معركة محو اسم الأميرة من أشهر ساحات حيهم بأسلحة ما سمّوْهُ بعلاقة الأميرة ب”الاسترقاق”.
وأنها في كتابيها مذكرات أميرة عربية ورسائل إلى الوطن كانت مدافعة عن تجارة العبيد.
وطالب سكان “حي فينكيناو” تغيير اسم الساحة من “إيميلي بلاتز” إلى “تيريزا بلاتز”.
وتيريزا هي طفلة ولدت في عيادة نسائية بهذا الحي ولم يُكتب لها أن تعيش سوى يومين فقط.
وجاء في مسوغات الطلب أن والدة تيريزا عانتْ من سوء الرعاية الصحية في المعتقل الهامبورجي وفي أقسام التحقيق وأنها وصلت منهكة لعيادة “حي فينكيناو” في ٢٥ ديسمبر ١٩٤٣ فوضعت طفلتها بعد يومين أي ٢٧ ديسمبر ١٩٤٣م. وهي تعاني من التهاب السحايا.
وإن طفلتها فارقتْ الحياة بعد يومين من الولادة لتضاف إلى أكثر من ٤٠٠ طفل من أبناء اللاجئين الروس والأوكرانيين والبولنديين والبيلاروسيين قضوا نحبهم بين عامي ١٩٤٣ و١٩٤٥ كنتيجة لذل أرباب العمل الذي مورس ضد آبائهم ولسوء المعاملة ولضعف الرعاية الصحية التي يلقاها عمال شرقي أوروبا في المستشفيات وأماكن الإيواء في هامبورج.
ورأى سكان الحي أن إطلاق اسم “تيريزا” على ساحة “أولينهورست” سيذكِّر دوما بما اقترفته سلطات بلادهم من إجرام في حق العمال الشرقيين وزوجاتهم وأطفالهم.
ومع التسليم باستحقاق الحدث لأن يتجلى في لافتة شارع من الشوارع أو ساحة من الساحات للتذكير به ، لكن ذلك لايبرر حذف اسم آخر استوفى كافة الاجراءآت والمعايير قبل المصادقة عليه رسميا واستبداله بآخر ، فهامبورج من الاتساع لتستوعب ألف إيميلي وألف تيريزا فلماذا يضيِّق أهل الحي واسعا في مدينة هي الثانية في المساحة بين مدن ألمانيا بعد برلين.
ولكن لمجرد أن علقت اللافتة على ساحة “أولينهورست” عام ٢٠١٩م. حتى انطلقت حملة مسعورة شارك فيها الإعلام المحلي بجنون وذلك للضغط على الحكومة بإنزال اللافتة بحجج ظاهرها الانسانية وباطنها السم الزعاف.
ووظفوا في حملتهم ما وصفوه باقتباسات عن النسخة الألمانية لمذكرات الأميرة سالمة ورسائلها إلى الوطن والتي قيل أنها تنضح بالدفاع عن الاسترقاق.
واقتبسوا من المذكرات ما سمّوه
باستغراب الأميرة من استنكار الغرب لأسلوب الصرامة المتبع مع العمال لتحقيق الانضباط في دورة العمل رغم أن عقلاءهم في أوروبا مع فرض مثل هذه الصرامة.
وتوقفوا عند حديثها عن الأفارقة الذين يميلون إلى الراحة وأن الصرامة هي بين خيارات الحل في الابقاء على معدلات الإنتاج.
وتطرقوا إلى ما سمَّوْه بتفضيل الأميرة للأثيوبيين دون سواهم من الأفارقة في العمل بمزارعها الأربع الملأى بالعبيد !.
وأخذوا عليها قولها عن الجواري البيض وامتناعهن عن الأكل مع العاملات السمراوات.
وكل هذه المماحكات لا تبرر إلغاء قرار حكومي بإطلاق اسم إميلي رويته على ساحة “أولينهورست”.
لكن وقع ضربات مطارق الحملة على رأس حكومة هامبورج أجبرها على الانصياع لتريح نفسها من صداع الانقسام في الشارع الهامبورجي على أميرة تتكئ على خزين مثقل بالجدل والألم.
ورغم أن قرار الحكومة باطلاق اسم إميلي رويتة على ساحة “أولينهورست” لم ينبع من فراغ ، فالأميرة ذات صلة قوي بالحي ، ففيه ولد أبناؤها الثلاثة.
وإلى الجوار من الساحة كان بيتها الذي يشغل العقار رقم ٢٩ في شارع “شيون أوسشت” كأول موطئ قدم لها في بلاد الألمان.
وهنا تعرفتْ على البحيرة التي تتسلل برودتها مع نسيم الصبح عبر الدرايش فينتعش البيت.
وهنا عرفتْ الثلج الذي يحيل صفحة البحيرة الرمادية إلى صالة بيضاء للتزلج كل شتاء بعد أن يتم إبعاد أسراب البجع والبط في مكان آمن حتى الربيع.
وهنا استقبلتْ أقسى الصدمات يوم التهم القطار قدمي رودلف.
وعبر قناة “الإلبا” المتفرعة من البحيرة فكرت إميلي في أن تحمل زوجها على قارب إلى المستشفى فتجدف بأهدابها لتسريع الوصول لولا وصول العربة التي ستنقله.
وهنا ناضلت لتربي أطفالها ولتكتب الروائع.
أقف بجوار العقار رقم ٢٩ وقد تغير البيت وتغير الساكنون.
وأمشي بمحاذاة قناة “إلبا” في زفة من الزهور النادرة على الضفتين وخرير الماء يموسق اللحظات ، فيا لجمال المكان ويا لضغائن الإنسان.
وأختم كما بدأت بأميرة الشاعر سعدي يوسف:
ورُبّما صدّقَ الشخصُ ما غمغمَتْهُ الفراشةُ
رُبّما مَدَّ إصبعَهُ
غيرَ أنّ الفراشةَ
مثل الأميرةِ
في لحظةٍ
وبكلِّ مَهابتِها
تنحني
وتطير !
———————————-
هامبورج في ٢٩ يونيو ٢٠٢٤م.

زر الذهاب إلى الأعلى