أحمد الفلاحي وحضوره الباذخ في صفحات “أجواء أسئلة” الوطن

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي
قد يحملك قدرك لأن تصادق “البدايات”.
وقد تتعملق الصداقة فتتأهل تلقائيا كطرف في تلك البدايات.
وقد تنعجن بها وتتماهى معها ، فلا تستعاد البدايات إلا مقترنة بك ومقترنا بها.
وشيخنا الأديب الكبير الإعلامي أحمد بن عبدالله الفلاحي ضمن تلك النماذج التي وضعتها أقدارها على هذه المسارات ، فكان مع صافرة البداية وعند لحظة انطلاق الأشواط.
ولقد رأيناه على قوائم المغتربين عن الوطن ، وعلى قوائم المستجيبين لصوت للنهضة نادى.
ولن نفاجأ ونحن نتصفح ملف الاغتراب باِطلالة يافع خاتل العمر فركب البحر ، وهو الذي لم يسبق له وأن تلمَّظ الماء المالح ولا شاهد تكسُّر الموج.
لقد مشى في مناكب الأرض مع من مشوا ، وهو غير مضطر لتجشُّم ذلك العناء.
ونشب أظافره لترصيع اسمه في قوائم السَّاعين لطلب الرزق ، رغم أن واحة أبيه وارفة ونار مواقد مضيف العائلة لا تنطفئ.
ورغم كل ذلك فقد تمرد الفتى على ضفاف الأفلاج في “بطِّين” وعاند ظلال النخيل ، وانتعل دون إذن عائلته الكريمة جمر الخليج وشمسه اللاهبة.
لكن الرهان كان كبيرا على سرعة عودته ، وأن اغترابه مجرد نزقة طفل مسكون بمجاراة الكبار وبشغف ارتياد الطرف الآخر من اليابسة.
وأن الضجر لبعد المسافات عن الأهل والرفاق والشقاوات مع نابتة المكان سيبدد نزقة السفر وسيشتعل الشوق للظل الأخضر ولألوان الضاضو ولتنكُّب السكتون لاصطياد العقاعق.
لكن الذين قاسموه ألف باء غربته شاهدوا الشمس وهي تضيف مساحيقها على جبينه وأخاديده عمره ، وعاصروا الثقل الفيزيائي لسنة الغربة التي تزيد عن مائة سنة في “بطِّين”.
وبدا الفتى الفلاحي مصرَّاً على التفوق على نفسه ليكسر كل الرهانات عليه ، فمذ لامَسَ يابسة الشطآن وتجرع مرَّ الاغتراب شبَّ عن الطوق.
وأدْرَكَ أنه هناك لأجل لحظة فارقة وعليه أن يرتفع إلى مستواها.
وأنه متى ما استعيد ملف الاغتراب بحلوه ومرِّه سيحضر في قوائم الشقاء وقد تجرع علقم الصبر فازداد صلابة وتدرع بالصمود فازداد عنفوانا.
وكان من أهم حسنات تلك الفترة أن اكتنزتْ شنطته بالمراسلات مع الكبار من مقاسات الشيخ صالح بن عيسى الحارثي والشيبة الشيخ محمد السالمي والشيخ ناصر بن عيسى الحارثي والشيخ عبدالله الطائي وقد تزاحموا منكبا بمنكب ، فمسطرة المساواة تحضر بقوة في الغربة ، كما تحضر ذات المسطرة في أردية الإحرام ، وتحضر ذات المسطرة عند التهيؤ لقناطر الآخرة كفنا ولحدا.
وكانت محاور المراسلات مقاربات هامة وثرية للشان العماني العام .
وكشف الشيخ أحمد الفلاحي عن احتفاظه بعشرين ملفا من الرسائل التي نجت من الضياع.
وأن نوافذ التراسل ظلت مشرعة حتى بعد العودة فأضاف لقائمة من تراسل معهم المشائخ عبدالله بن علي الخليلي وهاشم بن عيسى وهلال السيابي وعبدالله بن صخر العامري وكوكبة من الإعلاميين.
وكما كان الاغتراب بدافع من نزق سبر غور ما وراء البحر ، كانت العودة بنفس النزق وأكثر وأكثر وأكثر.
ولمجرد أن تعالت نداءات ٢٣ يوليو ١٩٧٠م. كان الشيخ أحمد بن عبدالله الفلاحي أول المنتظرين في منافذ حجز مقاعد العودة ، يحدوه الشوق لحضن الأم ووجْه الأب وتعويبة الجبال وأراجيح السعفات وأغاريد الأودية وعبق الهيل في قهوة السبلات ، وقد حرص المغترب عن الأفلاج على أن يتولى بنفسه كتابة نوتات مارشات العودة إلى الوطن.
ولأنه صديق البدايات كما قلنا فكان في رومانسية الصياغة الجديدة للوطن وهو يفتح قوسين ليزهر الحلم.
ورأيناه في “أجواء الأسئلة” وهو يرعد ويبرق ويحاجج ويجادل ويدافع بشراسة ليرى كل الاستحقاقات التي من أجلها اغترب العمانيون قد استوفيت برسم العودة.
ولو تصفحنا بدايات الإذاعة العمانية سنرى الإعلامي الكبير الشيخ أحمد بن عبدالله الفلاحي في الفصل الأزهى لمسيرة “هنا مسقط” وله فيها ومعها القدح المعلا.
ولقد بدأ معها منذ كوخها الصغير المستقطع من عنابر الجيش والواقع شرقي بيت الفلج حيث بدأ منه البث مطلع النهضة المباركة ليشمل أحزاء من مسقط ومطرح وروي ودارسيت وسداب.
وانتقل الشيخ الفلاحي مع الاذاعة إلى مبناها الثاني على بعد بضع مئات من الأمتار من المبنى الأول فتطور البث ليعم “محافظة العاصمة” فأجزاء من الداخلية والباطنة والشرقية فعمان كلها فما بعد بعد بعد عُمان.
وكان الفلاحي في الانتقالة الثالثة للإذاعة إلى مقرها الثالث بمدينة الإعلام ، وقد اتسع الوعي وارتقت الرسالة وتسامى الخطاب وتكاملت الغايات.
وعن تلك الفترة الهامة يسهب الشيخ الفلاحي في الحديث عن الإذاعة العمانية في لقائه بالإذاعي الكبير المكرم محمد المرجبي ، فاتسعت صفحات كتابه القيم “أجواء الأسئلة” لسرد البدايات.
كما تطرق في الحوار عن الرواد الذين بدأت بهم “هنا مسقط” وكان الفلاحي بينهم بقلمه وصوته.
وفصَّل الفلاحي الحديث عن اسهامه في في تحرير المواد الخبرية والبرامج التي حملت اسمه كمعد لبعضها ، وكمعد ومقدم لبعضها الآخر.
وإذا ما انتقلنا إلى ملف الصحافة العمانية فلشيخنا الفلاحي اسهامه الذي يُشْتَهى لأن يعاد ، فقد انسابت حروفه على صفحات عمان والوطن والغدير ونزوى وغيرها من الصحف والمجلات داخل السلطنة وخارجها ككاتب مقال من الطراز الرفيع.
وكان في كتاباته طارقا لأكثر من باب وقد تفتحت له كل الأبواب على مصاريعها ، ومتناولاً لأكثر من شأن فكان المسدَّدْ ، ومبحراً في أكثر من لجَّة وكان دوما “الشراع الكبير”.
كما أدار الشيخ الفلاحي باقتدار تحرير مجلة الغدير إلى أن توقفت عن الصدور.
وأسهم في تأسيس مجلة الثقافة الجديدة وكان أحد أعضاء هيئتها التحريرية.
وإن استعرضنا ملامح المشهد الثقافي في عمان الحديثة فلن يكتمل السرد دون شيخنا الفلاحي كأحد أجمل العناوين لثقافة عصر النهضة.
وكان بيته بالخوير ناديا ثقافيا لعمان قبل تأسيس النادي.
وكانت حوارت مجلسه منتدى أدبيا قبل أن ينطلق المنتدى الأدبي.
وكان الشيخ أحمد الفلاحي حضنا للمشاريع الثقافية الواعدة.
وسقيفة يتواءم تحت ظلها النبت فيصمد عبر الفصول.
وتعريشة لدلايات العناقيد فتتعدد الدورات الزراعية ومواسم القطاف في العام الواحد.
وكان جسراً ممدودا بين أسواق الشعر مذْ كانت القصيدة تصدح على ظهور الجمال وأكمات البوادب وإلى زمننا الرقمي حيث الأمسيات تُنْقَل “أون لاين” أو عبر تقنيات الكونفرنس.
وكان الفلاحي قريبا من القابضين على جمر الأرومات الشعرية للسلطان سليمان النبهاني والستالي والكيذائي
وكان أخا للذين يعضُّون بالنواجذ على جواهر بن عديّم وسيدي الوالد وأمير البيان وهلال السيابي وأبي سرور وعبدالله الطائي.
وكان صديقا للذين يتعشَّقون لغة سيف الرحبي ونصوص سما عيسى وزاهر الغافري وعبدالله الريامي ومحمد الحارثي وصالح العامري ومحمد اليحيائي ومبارك العامري وأحمد الوهيبي وزهران القاسمي.
وعُرف عنه عدم تعصبه لعصر أو لتيار أو لقالب من قوالب كتابة القصيدة ، فجل همه أن تكون المحصلة قصيدة تلامس الوجدان.
والحال نفسه مع بقية الأقسام كالرواية ، إذ كان الفلاحي وما يزال قارئا للرواية العمانية ومحفزا لفرسانها وفارساتها.
وفي كتابه “أجواء الأسئلة” لا يدخلنا الشيخ الفلاحي أجواء أسئلته هو ، بقدر ما تحتوينا أجواء أسئلة ستة عقود من عمر الوطن وذاكرته وأرشيفه لنعيش معه بدايات عمان الحديثة وبداياته هو مع عمان الحديثة.
وإذا كانت من أمنيات تُسَجَّل فنتمنى أن تكون الطبعة الثانية لكتاب “أجواء الأسئلة” تتوزع على مجلَّدين ويكون للصورة مساحتها إذ بدت الطبعة الأولى الممتدة ل٥٩٢ صفحة خالية من الصور بما فيها صور الشيخ الفلاحي مع الذين حاوروه.
وكنت سألتمس العذر لو أن الشيخ ليس من أصدقاء الصورة ، لكنه ممن يمتلكون خزينا زاخرا من الصور المنقوعة في بارود التاريخ وعطر الأزمنة ورومانسية الأيام وليته وظفها بعضها كوثائق تخدم “أجواء الأسئلة”
———————-
*مسقط في الأول من أغسطس ٢٠٢٤م.
*الصور بعضها من كتاب “عمان منذ الأزل”
*وبعضها من أرشيفي الخاص *وبعضها من الأصدقاء.

زر الذهاب إلى الأعلى