نبض طبيب : أطباء الفكر والقيادة

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

الطِّبُّ يجمعُ بَيْنَ عظَمةِ العِلْمِ وقدسيَّةِ الإنسانيَّةِ منذُ الأزل، ولا يزالُ مكلَّلًا بنُبلِه وسُموِّه ومكانتِه المرموقة بَيْنَ المِهَن، وكَمْ أُلْهِمَ به العُظماءُ حتَّى قالَ الإمامُ الشَّافعي رحمهُ الله: «ما رأيتُ عِلمًا بعدَ الحلالِ والحرامِ أنْبلَ من الطِّب.»
كطبيبٍ أنْ تجمعَ بَيْنَ العقلِ والفِكر، بَيْنَ العِلْمِ والرَّحمةِ ممَّا يجعلُكَ تتبوَّأ بابًا من أبوابِ الشَّرف، وتخوضُ غمارَه لِتُتركَ بصمةً لا يَمْحُوها تقادُمُ الأيَّام، ما زالَ وسيظلُّ الطِّبُّ شغفًا لكثيرٍ من الأطفالِ، وآسِرًا لِقُلوبِهم بأنْ يُصبحوا ملائكةَ رحمةٍ. ولكنْ ما أنْ تلبثَ الأحلامُ إلَّا وتصطدمُ بصخورِ الواقع، فليس الطَّريقُ إلى المَجدِ مُكلَّلًا بالورودِ دائمًا، وأنْ تَخطوَ خطوةً نَحْوَ كُليَّة الطِّبِّ ما هي إلَّا بدايةٌ لكفاحٍ لا يَنتهي.
في زمنِنا الحاضرِ اختلفتِ المعادلاتُ وازدادَ عددُ مخرجاتِ كُليَّاتِ الطِّب، وازدادتْ عاديَّةُ الأطبَّاءِ وإنجازاتهم، فتحدِّياتُ هذه الحِرفةِ الجليلة الَّتي لم تَعُدِ الشَّهادةُ فيها كافيةً، بل يُطلَبُ مِنْك أنْ تُصبحَ رقمًا صعبًا في مجالِك.. فنَحنُ في عصرِ العولمةِ الَّتي تأخذُنا إلى سباقٍ محمومٍ نَحْوَ المعرفةِ والإنجازاتِ لِتقتحمَ أسوارَ العِلْمِ، وتُضيفَ ما يجعلُ اسْمَك خالدًا.
ستظلُّ بوَّابةُ الطِّبِّ أرْحَبَ الأبوابِ لِتُسطِّرَ الأمجادَ لمداخلِ التَّاريخِ للاختراعِ والابتكارِ، خصوصًا إذا جاءَ المرءُ بما يحفرُ اسْمَه في سجلِّ الخالِدينَ، حيثُ لا تمحوُهُ عُقودُ الزَّمنِ المُتعاقبة، نحنُ في عصرٍ تَسُودُه ثَوْرةٌ معلوماتيَّة، وتدفُّقٌّ للمعرفةِ، وتَصادمٌ للثَّقافات. ولكنْ لا يُعَدُّ هذا الهدفُ مستحيلًا، وإنْ كانَ عسيرًا، لكنَّه يَهُونُ على مَن صقَلَ نَفْسَه، وروَّضَ طموحاتِه للوصولِ إلى أعالِي القِمَمِ وذرَى المَجدِ اقتداءً بأجدادِنا الأطبَّاءِ المُسلِمِين. فبفضلِ نظرتِهمُ الشُّموليَّةِ للعِلْمِ والمعرفةِ نستلهمُ الرِّيادةَ في مختلفِ العلومِ فلَمْ يكُونُوا أطبَّاء فقط، بل سَطَّرُوا ملاحمَ كعُلماءَ ومُفكِّرين، وجمَعوا ـ بالإضافةِ إلى الطِّب ـ علومَ الكيمياءِ والهندسةِ والفَلَكِ والفلسفةِ…
تاريخُنا مليءٌ بالأطبَّاءِ العُلماء مِثل ابنِ سينا الَّذي خُلِّد اسْمُه في كتُبِ الفلسفةِ والطِّبِّ على حدٍّ سواء، كانَ فيلسوفًا وشاعرًا وطبيبًا، والزَّهراوي لم يكُنْ فقط جرَّاحًا بارعًا، بل كانَ فقيهًا عالِمًا.. هؤلاء لم يَحصُروا أنْفُسَهم في حدودِ العِلْمِ الواحد، بل كانُوا أُفقًا رَحْبًا تتلاقَى فيه علومُ الطِّبِّ مع علومِ الحياة.
وفي العصرِ الحاضرِ أرَى الكثيرَ ممَّن بدأوا بالمعطفِ الأبيضِ وأكمَلُوا خُطاهُم لِيُحلِّقُوا في الأُفقِ ويتصدَّرُوا المشهدَ في السِّياسةِ والعلومِ والتَّعليمِ والتَّنمية، وفي كُلِّ ميدانٍ يتطلبُ قيادةً فكريَّةً وإنسانيَّة. أرَى مهاتير محمد الطِّبيبَ الَّذي أصبحَ زعيمًا فذًّا وحلَّقَ ببلادِه عاليًا لِتُصبحَ في مصافِّ الدوَلِ المُتقدِّمةِ. وأُذكِّركم أيضًا: ألَمْ يكُنْ مصطفى محمود العقَّاد الطَّبيبُ المصري عالِمًا مُفكِّرًا، وكتَبَ في الفلسفةِ والدِّين كما كتَبَ في الطِّبِّ؟ ألَمْ يكُنْ عبدالرحمن السميط الطَّبيبُ الإنساني الَّذي كرَّسَ حياتَه في الدَّعوةِ والعملِ الخيري فسارَ برسالتِه التَّنمويَّة إلى القُرى البعيدةِ (النائيَّة) في إفريقيا ينشُر التَّعليمَ والطِّبَّ معًا؟
هؤلاء لم يُقيِّدوا أنْفُسَهم في حدودِ العِلْمِ الواحد، بل كانوا فضاءً رحبًا تتناغمُ فيه حكمةُ الطِّبِّ مع مختلفِ العلومِ الحياتيَّة.. والطَّبيبُ ليس عَلَيْه أنْ يكُونَ حبيسَ عيادةٍ أو غُرفةِ عمليَّات، بل هو قائدٌ بالفطرةِ يمتلكُ من العِلْمِ والخبرةِ ما يؤهِّلُه لِتَولِّي المناصبِ القياديَّة. إنَّ الطَّبيبَ يَحملُ في يَدِه ـ من بعدِ الله ـ مفتاحَ الحياةِ، لكنَّه أيضًا يَحملُ في عقلِه شعاعًا من الحكمةِ، ويُمكِن بفكرِه النيِّر أنْ يقُودَ المُجتمعاتِ إلى بَرِّ الأمانِ، فالطَّبيبُ ليس مجرَّدَ معالِجٍ، بل هو فِكرٌ حيٌّ يَمشي على الأرضِ يُقدِّمُ للإنسانيَّةِ أكثرَ من مجرَّدِ علاجٍ للأجسادِ، إنَّه يُداوي الأرواحَ، يُحيي الأملَ، ويُشعلُ فتيلَ التَّقدُّمِ، وشرارةَ التَّنميةِ.. فتحيَّةُ إكبارٍ للأطبَّاء.
د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عمانية

المصدر: جريدة الوطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى