في “الثَّابْتي” للتطواف بكنوز الدكتور محسن الكندي وتصفُّح جواهر مجلتي الفلق والرسالة

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

تعيدني المكتبات إلى عيني أبي.

لنظارته التي تتساءل مع الرائع نزار:

“أيسلو الزجاج عيوناً أشف من المغرب”؟.

للكتاب الذي يتأبطه أبي إنْ مشى ، ويفتحه قبل أن يستوي في جلسته فتنساب الصفحات.

لقلمه أو الأصبع السادسة في يمينه الذي لا ينفصل إلا ليستريح في “منحر الدشداشة” أو ليتربع عند أعلى الأذن بالقرب من العمامة ليشمخا معاً.

هأنذا في تكرار للجغرافيا المترعة بالشوق لأبي ، وفي الحقول الأثيرة لديه ، والزوايا المبخَّرة بأريج الورق وشذا المداد أدْلِفُ مكتبةً أخرى في سياق التطواف بالمكتبات وهذه المرة في “الثابتي” بولاية إبراء صحبة سادتي الكرام فتتراءى كما في كل مرة عينا أبي ، ويسطع وجهه الذي لا ينحني إلا لله أو ليتتبَّع الأسطر كتابة وقراءة.

يستقبلنا الأستاذ الدكتور محسن بن حمود الكندي في “قصر الكتب” ولا أقول المكتبة ، فرخام الأرضيات الناصع البياض يتلألأ بانعكاس أضواء ثريات القبة التي تهطل ديمة تلو ديمة بينما أغلفة الكتب تتراسل مع لمعان الرخام فتتكرر إلى الحد الذي تتحاشى الخطوات المشي عليه لكيلا تطأ الأسماء والعناوين وإنْ كانت مجرد تموُّجات لونية على الرّخام.

نمشي مع الباحث الكبير الدكتور الكندي العائد لتوِّه من نزهة عائلية في بلاد القوقاز فما زالت جوَّافة أذربيجان على طاولة الضيافة تتبارى برائحتها وألوانها مع رطب “الخشكار” القادم من مقاصير الأستاذ محسن الكندي مع عدد من فواكه الموسم.

لكن العاصمة الأذرية “باكو” التي تتأنق قوائم المطاعم فيها بكافيار بحر قزوين لم تعطِّل شغف البحث لدى الدكتور محسن الكندي الذي نجح في التوفيق بين رضا العائلة ورضا روحه الهائمة في عوالم المخطوطات ليستسقي من موردها ما يروي العطش لمزيد من المعرفة بالإرث الإنساني.

نطالع أرفف المكتبة بامتداد الحيطان الأربعة وقد ازدانت بالنفائس التي تراصَّتْ كفاترينات القصور.

بينما المساحات الفاصلة بين الفاترينات والأسقف ظلَّتْ تتبتَّل بلوحات مطرزة بالآيات الكريمة وبأبيات من عيون الشعر العربي نقشها حروفيون ورسامون أتعبوا الريشة والإزميل ولم يتعبوا.

تحتوينا الأرفف فأسأل الباحث الأستاذ الدكتور محسن الكندي عن أقدم النفائس بالمكتبة فيتحدث عن امتلاكه لمخطوط للمصحف الشريف إلى جانب احتفاظه بمؤلف بخط يد جده وهو بصدد التفرغ له لتحقيقه وطباعته.

وتتسمَّر العيون صوب رفٍّ في الحائط الغربي تعلوه لوحة حروفية حملتْ بيتاً من لامية لبيد بن ربيعة:

أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَهَ باطِلُ

وَكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ

وقد تكررتْ في الرف عشرات الأغلفة التي اكْتَستْ باللونين الأسود والذهبي فنقترب أكثر لنكتشف أنها الأعداد الكاملة لمجلة الرسالة منذ صدور عددها الأول في يناير عام ١٩٣٣ وحتى إعلان رئيس تحريرها الأستاذ أحمد حسن الزيات قرار الحجب في العدد الأخير رقم ١٠٢٥ والصادر في فبراير عام ١٩٥٣م.

يتحدث سيدي الهلال بن سالم عن رئيس تحرير مجلة الرسالة بالكثير من الإكبار للدور الذي اضطلعت به مجلته التنويرية في قيادة الوعي طوال ٢٠ عاما من عمر المجلة.

يمرر الدكتور محسن الكندي كفَّه على صف من مجلدات مجلة الرسالة وكأنه يربِّت على كتف الأستاذ الزيات مثمناً كلام سيدي الهلال.

يتوقف الدكتور الكندي عند قرابة المنتصف من أعداد الرسالة ويقول : “لقد قرأت من هذه المجلدات إلى هنا”.

ويستطرد : “لقد استوقفني في العدد ٣٣٦ مقال لكاتب عماني اسمه أحمد الكندي ويقدم نفسه كمراقب بعثة سلطنة مسقط وعمان ، ويرد فيه على مقال لأبي الوفا ، تناول فيه أبو الوفا المذاهب بشمال أفريقيا دونما ذكر لوجود للمذهب الأباضي هناك ، فيرد الكاتب أحمد الكندي في مقاله بمجلة الرسالة ، ومن جملة ما جاء في رده :

“إن أبا إسحاق اطفيش نزيل القاهرة الآن ، وهو من جِلَّة علماء الأباضية بشمال أفريقيا فلن يسكت عن الجواب وإيضاح الحقيقة لمن يتجاهل أو يجهل وجود الأباضية المسلمين بشمال أفريقيا وبأهم مدنه من طرابلس الغرب وتونس والجزائر ووادي ميزاب وغيرهن من المدن المشهورة، من أقدم التاريخ حتى الآن وإلى ما شاء الله من الزمن، وحسبهم مفخرة تمسكهم بالعروة الوثقى من الدين الإسلامي الصحيح”.

ولا يسمح المقام بنشر كامل المقال لكنني بالعودة لفهرسة محتويات أعداد مجلة الرسالة تبين لي أن المذهب الأباضي تكرر ذكره في ١٨ موضعا من أعداد مجلة الرسالة.

ونخرج من حصار مجلة الرسالة التي توقفتْ في يوم مصري حزين كما وصفه الأستاذ محمود عباس العقاد لتلحق بشقيقتها مجلة “الثقافة” المصرية فنطالع مجلدات كتاب “المصنَّف” لمؤلفه العلامة الشيخ أحمد بن عبدالله الكندي المتوفى سنة ٥٥٧ هـ . بأجزائه التي تصل لواحد وأربعين جزءا ، لكن تقنيات الطباعة الحديثة ضغطتْ مصنف الكندي ليصدر في ٢٤ مجلدا فقط ، وهو العلامة السائر على خطى شيخه محمد بن إبراهيم الكندي صاحب “بيان الشرع” الذي يربو على سبعين مجلدا.

وتكتمل دائرتهما بالعلامة محمد بن موسى بن سليمان الكندي صاحب كتاب “الكفاية” ليعزز الثلاثة مقولة “أن العلم كندي”.

وما دام الحديث كِنْدياً طفقْتُ أسأل الأستاذ الدكتور الباحث محسن الكندي عن حضور آل كندة في إبراء فيعرض الدكتور بحثا قيِّماً صدر في طباعة فاخرة من تأليفه ويتضمن “مشجَّرة” لنسب بيوت الكنود في إبراء.

ولعل الدكتور محسن الكندي خير من خدم تراث عمان في العصر الحديث بشكل عام وآل كندة بشكل خاص على مستوى الجهد الشخصي لا الجهد الحكومي ، فإلى جانب “مشجَّرة” الكنود تتبَّع الدكتور محسن سيرة الشيخ القاضي إبراهيم بن سيف الكندي ونجله الشيخ الأديب مالك بن إبراهيم فتتوج الجهد بكتاب أسماه “مناخات جبل الشيبة”.

كما أصدر كتاباً ضخما تناول فيه سيرة وتراث وأدب عالم النحو والأصول الشيخ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي النزوي.

ويتوقف سيدي الهلال قبالة رف يترنم باثنين وعشرين مجلدا لمعجم البابطين الخاص بشعراء العربية ومن بينهم العديد من شعراء عمان مع بعض من عيون قصائدهم ، والمعجم المذكور يمثل مفخرة كويتية انتصر فيها الشعر على المال.

وبقدر ما انشغل رجل الأعمال البابطين بجمع المال قام وبنفس الوتيرة بتجميع أشعار العرب.

وقد رحل رجل الأعمال عبد العزيز سعود البابطين في منتصف ديسمبر من عام ٢٠٢٣م ليبقى عبد العزيز سعود البابطين الشاعر.

وتبقى دواوينه الثلاثة وجهده المقدَّر في خدمة الشعر العربي.

ويشير الشيخ سالم بن محمد العبري إلى مجلدات كتاب دليل الخليج الذي ألفه جون جوردون لوريمر بتكليف من الحكومة البريطانية وصدر باللغة الانحليزية ليظهر فيما بعد في ترجمتين إلى العربية في كل من سلطنة عمان وقطر ، فيؤكد سيدي الهلال أنه حصل على المجلدات الكاملة لدليل الخليج بترجمته العمانية إلى العربية.

وفي قسم آخر من المكتبة وتحت لوحة مطرزة ببيتين من شعر عبدالله بن خميس الكندي جاء فيهما :

“فمن مثلي يكون قرير عين

ينام العالمون ولا أنام

مقامي في النصيب بأرض إبرا

وقلبي في السماء له مقام”

يفتح الدكتور محسن الكندي مجلدا كبيرا يضم أعدادا من مجلة الفلق التي رأس تحريرها الشيخ هاشل المسكري.

نتصفح معه المجلد لنقف عند حوار نقله الدكتور محسن الكندي من مجلة الفلق ونشره في كتابه “فجر الثقافة العمانية المعاصرة” الصادر في جزأين وتتبع فيه الكتابات المعاصرة في الأدب والتاريخ والصحافة ، حيث يشير الباحث محسن الكندي إلى أن مجلة الفلق انفردت بأول حديث صحافي مع الشاعر السيد هلال بن بدر البوسعيدي.

وقد أجرى الحوار مراسل المجلة في مسقط الذي اكتفى بتوقيع إسهاماته في المجلة باسم المسقطي وتم نشره في العدد رقم ٩١٦ الصادر في ٢١ أكتوبر ١٩٤٤م. بل هو أول حوار صحفي مع شاعر ينشر في الصحافة العمانية منذ نشأتها.

وفي الحوار يطلب المسقطي من السيد هلال بأن يتحفه ببعض قصائده فيتمنَّع السيد وهو يقول : إن في طلبك مغالطة ، ألم تعلم كما يعلم غيرك من أدباء مسقط بأنني مزقت ديوان شعري.

ويواصل المسقطي الالحاح عليه ولو ببعض من المقاطع الغزلية

فيرد السيد هلال بن بدر

أخشى أن يتمثل قراء “الفلق” فيَّ وفيك بعد قراءة قصائدي :

“فيا ضيعة الأشعار إذ يقرضونها

وأضيع منها مَنْ يُرَى أنها شعرَ”

ومن موسوعة فقهية تراكم بها مكتبة الدكتور محسن الكندي خزينها النفيس إلى موسوعة ثانية في التاريخ منذ الأزل وإلى النهضة المتجددة إلى ثالثة في الأدب تستجيب مع عمان الحاضرة في ديوان العرب إلى رابعة وخامسة وعاشرة في شتى حقول المعرفة يتواصل التطواف بأرفف المكتبة واستعراض العناوين.

وفي زاوية أخرى من المكتبة وتحت لوحة مطرزة بالآية الكريمة “وقل ربِّ أدخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق” يسلم الشيخ سالم بن محمد العبري نسخة من كتابه “أريج النيل”.

لكن الأهم ما بالمكتبة هو سيد المكتبة الذي لم ينفق حصاد العمر في شراء كتب تصارع “الأرضَّة” بل لأجل أن يشرب عصارة مدادها حتى الثمالة.

ولأجل أن يستلهمها في العشرات من الكتب المطرزة باسمه.

والتطواف معه بالمكتبة كالتطواف مع المكتبة المتنقلة بالمكتبة الثابتة فما برأس الدكتور الكندي من ملفات يعادل ما بالأرفف.

ونختم التطواف بزيارة قسم مهم في المكتبة يتسم ببعض الحميمية فيختصر سيرة حياة الباحث منذ الطفولة إلى الدراسة الجامعية بالبحرين إلى رحلة الماجستير والدكتوراه.

ونطالع في هذا القسم صورا لرجال عبروا العمر ، ولقامات ما زال الدكتور محسن الكندي يدين لها بالفضل ويستضيء ببركة عطائها الفياض.

هنا نرى صورة له مع والده وعمه ، وأخرى في الجامعة ، وثالثة مع شيخه الأديب أحمد الفلاحي ورابعة مع الشاعر البحريني إبراهيم العريض وخامسة مع الشاعر قاسم حداد وسادسة وعاشرة مع الكبار الكبار داخل عمان وخارجها.

وهنا النسخة الأولى لأطروحة الماجستير وأخرى للدكتوراه

وهنا بعض أعداد مجلة الغدير ومجلة صوت عمان وصوت البحرين والكثير من النفائس التي صاحبت شبابه ومسيرته العلمية.

ونعود للمكتبة القصر حيث مكتبه الفخم بل عرشه فنتحلق حول طاولة دائرية بحجم قبَّة سقف المكتبة فوق الرؤوس لنستعيد معه من جديد ذكريات منطقة القوقاز التي هيمن عليها البلاشفة برضا أو بعنوة لتدور الأيام ويدخل الاتحاد السوفييتي عصر الترنح زمن جورباتشوف و”البيريسترويكا” والبعثرة والتمزق والانهيار والشتات.

تجمعنا طاولة الضيافة بالمكتبة فتتنقل الأيادي بين جوَّافة أذربيجان ورطب “الخشكار” وفواكه الموسم ويدور الحديث حول من قتل رئيس إيران إبراهيم رئيسي في المرتفعات الواقعة بين أذربيجان وإيران ومن له المصلحة في غيابه من المشهد السياسي في إيران والإقليم.

وبينما تناثرت الاجابات لملمتُ من المكتبة طيف أبي من جديد وعينيه المتعبتين من القراءة ، ويراعه الشامخ في “منحر الدشداشة” وغادرنا قصر محسن الكندي بأكياس مكتنزة بالكتب تتلألأ باسمه على الأغلفة.

غادرنا بأمنية تكرار الزيارة لمكتبته أو لمكتبة أخرى تعيدني إلى عيني أبي.

لنظارته التي تتساءل مع الرائع نزار “أيسلو الزجاج عيوناً أشف من المغرب”؟.

زر الذهاب إلى الأعلى