زاهر الغافري يرحل ليبدو الحنين أكبر … من الأعمار

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

—————————

أجلس في مقهى “سلافيا” ببراغ لأحتسي قهوتي تحت صورة للطاقيَّة المائلة على رأس العظيم الجواهري فيتماوج دجلة والفرات في فنجاني ، بينما تغطس شمس العراق خلف “مشحوف” يعاند نعاس النهار في الأهوار. ولكم تمنيتُ أن يتكرر هذا الشعور فأرى قبعة زاهر الغافري تزدان بها جدران مقهى “لِلَّا كافيه” في مالمو بالسويد ويتسكَّب فلجا “الحيلي وبو جدي” في الأكواب ومعهما بشارات قيظ النغال في “الحبيك” وبِلِّ النارنج في “فص جلاص” وحِلَّاب التين في “الشويرة” وتكبيرات العيدين من مسجد “الفج”. ومع الفارق بين الجواهري العظيم وغيره من الشعراء ، ما زال في أفق الترحال مساحات لأكثر من طاقية وقبعة مهما تفاوتت القامات في الأطوال ، فلكل صوت في الغربة حشرجاته العربية المشبعة بغناء النخيل ونشيج السواقي وأنين النواعير ونايات الرعاة وهم يؤوبون بجَلَبهم من الفلوات ليتلفعوا المساءات المتثائبة. ومن المؤكد أن استحقاقات الجواهري كآخر الفحول تتعدى التكريم بتعليق صورة له في مقهى أوروبي إلى إقامة “مَسَلَّة” له في كل ميدان تذكِّر به وبالشعر العربي.لكن تعليق الصور في المقاهي حيث تجيء القصائد لتسامر الندامى يبقى من أبسط أمثلة التكريم. وفي قوائم الاستحقاق يحضر شعراء قصيدة النثر بأعمالهم الأقرب للذائقة الغربية. بل هناك من يبحث لقصيدة النثر العربية عن وشائج قربى مع أورويا والأمريكيتين ، ويراها من نفس المشكاة وضمن ذات الأطلس الجغرافي ولذات المناخات والأجواء والاشتغالات والمفردات. وبهذه القياسات والأوزان للذائقة الأوروبية قد ترجح كفة أبي إرم ونظرائه العرب من أساطين قصيدة النثر على شعراء القصيدة العمودية ، فالسويدي المسكون بقصائد الشاعر توماس ترانسترومر سيستسيغ قصيدة “ظلال بلون المياه” لزاهر الغافري أكثر من قراءته لترجمة قصيدة أبي تراب: “فداء لمثواكَ من مضْجَعِ تنوَّر بالأبْلَجِ الأرْوَعِ”رغم عظمة هذه المرثاة المكتوبة بماء الذهب في المرقد الحسني بكربلاء. وسيتجاوب أستاذ الأدب في جامعة مالمو مع قصيدة “غريب بين نهرين” لأبي إرم أكثر من مقاربات ناقد سويدي بصحيفة “سفنسكا” لقصيدة أبي فرات:”حيّيتُ سفْحكِ عن بُعدٍ فحيّينييا دجلة الخير، يا أمَّ البساتينِ”رغم عذوبة نونية مهدي الجواهري المشبعة بالحنين. ومع ذلك فإن مقاهي “اسبريسو هاوس” و”موكا” وغيرها من مقاهي مدينة “مالمو” لم تجد من يشير إليها بأن تعليق صور البلابل العربية في جدران المقاهي ستزيد من تدفق الشلالات السوداء في أكواب الندامى وسيبطئ قمر الليالي البيض من أفوله فتتأخر ساعات الاغلاق في المقاهي. لكن الشاعر زاهر الغافري وهو يودع نصف قرن من صداقات المدن الباردة والدافئة والممطرة والممحلة آثر أن لا يلزمها بتعليق صوره بالأبيض الأسود على جدران مقاهيها طالما أن العديد من سمَّارها وندامى قهوتها حفظوه في سويداء القلوب. وأتذكر أنني جئتُ ذات شتاء من هامبورج إلى الدنمارك لأرى حورية كوبنهاجن فوقفتُ عند آخر يابسة في مرفأ “لانجليني” بحيث لا تفصلني عن مالمو السويدية سوى دقائق ستلتهمها سيارة “الڤولڤو” في غمضة عين. لكن ضغوط الوقت والالتزامات وحجوزات العودة وخيباتي حالتْ دون أن أتقدم فأعبر مضيق “أوريسند”. يومها وقفتُ أتبين اسكندنافيا في هجعة المضائق الدانماركية الرابطة بين البلطيق وبحر الشمال. وجنَّحْتُ صوب ديمة من الوهج لتتراءى في الأخيلة شقة الشاعر الكبير زاهر الغافري التي دخلتها عيوننا مئات المرات عبر فيديوهاته التي ينشرها في حسابه بالفيسبوك أو ينشرها زواره. وكان الغافري هناك بقبعته الحمراء يشع في إسكندنافيا الداكنة الأفق قبل أن يحل الشتاء ، والشديد البرودة قبل أن تدخل “صردة” البرد.

وكنا نطل عبر فيديوهاته من نوافذ شقته فنرى الثلج العالق في جدائل البلدة. ونلاحق الحَمام الذي يبحث في نثار الثلج عن حبة بُرٍّ كهدهد أحمد شوقي الذي “غُصَّ فلم تنقذه مياه النيل ولا أمواه دجلة”وإلى هذا الحيز البارد في شمال أوروبا القصي جاء أبو إرم بعمره الستيني وبقلبه المرح لولا الكبد الأشبه بكبد قيس بن الملوح القائل :وَلي كَبِدٌ مَقروحَةٌ مَن يَبيعُنيبِها كَبِداً لَيسَت بِذاتِ قُروحِأباها عليّ الناسُ لا يشترونها وَمَن يَشتَري ذا عِلَّةٍ بِصَحيحِوإلى هنا جاء بقصائده الربيعية التي لا تشيخ بل تتعنقد بألوانها ومذاقاتها من القطاف إلى القطاف.وأقف عند حافة المرفأ بين حورية كوبنهاجن وحوريات الشعر في قصائد أبي إرم لأنصت وهو يسرد سيرته : “لقد ولدتُ فوق أرجوحة مشدودة الطرفين بين نخلتي جوز الهند في “بيمبا” الجزيرة التوأم ل”أنغوجا” عام ١٩٥٦م وتلك نومة مترفة لوالدته في “شوانب” أبيه المترامية الأطراف. وكان النسيم يهدهد عيني والدته النائمة تحت غيمة ، بينما الرذاذ من يتكفل بالإيقاظ. وكانت الأرض خضراء كشالات العرس ، وكل غيمة لا بد أن تمطر كغيمات الرشيد. لكن العائلة اختارت أن تترك بستان أفريقيا وتفرّ إلى الوطن الأم عمان مخافة أن يعوجَّ لسان فتى قد يقول الشعر يوما فيرفد شاعر همدان خالد بن هلال الرحبي. وقد ينظم المسبعات كسالم الغافري ولد رمثة.

لقد استقر الطفل زاهر الغافري بسرور لينهل من “شريعة الحيلي” الماء القراح ومن عصا الجالس في ظل الغافة الفصاحة. وقبل أن يخط الشارب كان في عاصمة الرشيد وجمجمة العرب وأرض السواد يحمل لرافديها نسخة من ديوان المتنبي التي أودعها والده “روزنة” البيت الطيني في سرور.

وفي بغداد اقترب زاهر الغافري من امرأة فاضلة يسميها “ما عائشة” وكانت مشرفة القسم الداخلي لطلبة عُمان. إلا أن الزمن غيَّب عن ناظريه “ما عائشة” فظل الشوق لوجهها يفترسه فاقتفى أثرها بأمنية أن يراها ولكن دون جدوى. ويوم عاد إلى الوطن مجددا كان عراقي اللكنة وعماني الانتماء حتى هزيع الروح. وجاء مكتنزا ب”البوذيات” و”الهوسات” والمواويل العراقية ، لكن المتنبي ظل يكبر فيه إلى جانب الرصافي والبحتري وأبي تمام ونازك والسياب. وانتزعه الترحال مجددا من غوطة “الحبيك”‘ومسبَّعات ولد رمثة وقصائد خالد بن هلال الرحبي فتنازعته أكثر من عاصمة وكلهن حبيبات.

ونادته المغرب فأمضى في المملكة العلوية سنوات الدراسة بجامعة محمد الخامس ومنها عبر المضيق على خطى موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى أكثر من بلد أوروبي. وحمله الترحال ليقف قبالة تمثال الحرية في جزيرة “ليبرتي” على خليج نيويورك ، وكان التمثال فارعا مثله فشاطره حب مدينة تجعل الناس يمشون بأعناق محنية لآخر زاوية وهم يطالعون الأفق. كانت نيويورك كما قال عنها يوما بأنها: “كالتصاق شفة الرجل بشفة امرأة ، ولقد أحببتُها”.وكانت “مالمو” محظوظة ففيها كتب التلويحة الأخيرة للمجاديف فترك “القارب هناك مضاء بنداء الزمن”.

وهناك انطفأت ابتسامة عينيه وتعطل الفنار ، فالملاح يتسحَّب من غضب البحر والأعاصير ويترجل لأجل الموت الذي يراه:”زهرةٌ في حديقة” أبيض بفضل الكلمة التي لن تقال”. ولأجل أن:”نزداد جَمالا بعد الموتفنسمع من يقول : انظركيف تقفز الأسماك من عيونهم”.”ولكي يبدو الحنين أكبر قليلا من أعمارنا نتأمل دائما لمعة السكين فوق السرير.

زر الذهاب إلى الأعلى