هذا رزقنا

سهوب بغدادي
“إن الرزق نوعان، رزق يطلبك، ورزق تطلبه، فأما الذي يطلبك فسوف يأتيك ولو على ضعفك، وأما الذي تطلبه فلن يأتيك إلا بسعيك وهو أيضا رزقك، فالأول فضل من الله والثاني عدل من الله” بغض النظر عن صحة المقولة من عدمها، فإنها تجسد معانٍ جميلة وعميقة للسعي والتوكل على الله خلال رحلة الإنسان اليومية والحياتية، فكم من شخص يشعر بالضيق والكلل والملل والنصب من العمل الدؤوب والمتواتر في موضع ما، وأقرب مثال على ذلك، آفة العصر المهنية مايسمى”الاحتراق الوظيفي” الذي يصيب أو أصاب الأغلبية، إنها ليست محاولة لتسطيح الإشكالية بل دعوة للتفكر فيها من زاوية أخرى. في هذا الصدد، أذكر توقفي في الصباح الباكر عند أحد مراكز التموينات الكبرى “سوبرماركت” لأخذ بعض الحاجيات على عجالة قبل موعد العمل، مع العلم أنني أبغض هذا الفرع نظرًا لارتباطه الوثيق بذكريات غير محببة إلى نفسي، ففي كل مرة أدخل فيها إلى المحل، أتناسى وأسلي نفسي عما في داخلي، كمحاولة لنبذ التفكير السلبي وعدم سماحي لسيطرته علي، عندها قمت بجمع الأغراض على عجل فامتلأت يداي بها، وبت لا أقوى على التوازن دون أن يقع شيء من يدي، فباغتتني إحدى الموظفات وهرعت لمساعدتي في وضع الحاجيات وترتيبها ثم انتظرت بالقرب منها ريثما أعود محملةً بالمزيد من الأغراض، لقد عاونتني كثيرًا بل ناولتني منديلًا لأنظف يدي من رواسب الزيت التي لطختها، لفتتني مبادرة الموظفة “هيا” خاصةً وأنها كبيرة في السن، فقلت لها: “ماشاء الله عليكِ، أنت موظفة متميزة شكرًا لكِ على المساعدة” فردت قائلة: “هذا رزقنا، مايحتاج شكر!” لقد غُرست هذه العبارة في قلبي منذ سماعها، وخرجت من المحل وأنا أتفكر فيها، فكيف بالشخص أن يقوم بأكثر مما ينبغي، وماتقتضيه مهامه الوظيفية بدعوى طلب الرزق؟ أليس رزقك من هذه الوظيفة محتوم وقادم في آخر الشهر لا محالة؟ ما رأيته كان تفانٍ من الموظفة، فحري بها أن تقوم بواجبها فقط دون الاهتمام البالغ بي، كما فعلت عندما أعطتني منديلًا لأنظف يدي، خاصةً وأن وظيفتها تستلزم مقابلة الجمهور من كافة الأطياف، وتستنزف الطاقة والوقت، الأهم في هذا الموقف، أن ما رأيته بدّل تفكيري في سوداوية ذلك المحل وارتباطه بالذكريات السيئة فأصبح لدي ذكرى جميلة أبني عليها ذكريات أفضل وأجمل -بإذن الله-أيضًا، أهدتني هيا موطنًا للتفكر فيما أعمل، بأن أبذل قصارى جهدي تجاه الأشخاص والأشياء ضمن حدود المقدرة.

“يوماً ما لن تكون سوى ذكرى في قلوب البعض، فاحرص على أن تكون ذكرى جميلة” – محمود درويش.

زر الذهاب إلى الأعلى