هاشل المصلحي و”مايكرفون” القدوم الميمون

حمود السيابي

—————————-

حمود بن سالم السيابي

——————————

في الخامسة من عصر الخميس ٣٠ يوليو ١٩٧٠م. كان الجندي هاشل بن محمد المصلحي في مطار بيت الفلج يمسك بيد واثقة المايكرفون لتمرير أول كلمة بالصوت النقي والصورة الصافية الملونة ، فقابوس السلطان ابن السلطان ابن السلطان يصل مسقط ليكتحل برؤية الجبال السُّمْر لعاصمة ملك آبائه وأجداده لأول مرة. ويصافح وجوها رآها في ألبومات قصر الحصن لأول مرة. وليَعْبُر بعمان والعمانيين من عهدٍ انتهى بما له وما عليه ، إلى عهدٍ جديدٍ سيبدأ. كانت اللحظة فارقة في عمر الوطن وهو ينصت لخطاب القدوم الأول. وكانت فارقة في عمر هاشل المصلحي كجندي يضعه القدر في المشهد الأول لملحمة الوطن. يومها تذكَّر الجندي هاشل المصلحي قدومه من إبراء غداة نفير عسكري ، والأسئلة المحتربة في ذهنه باتساع “سيح الحايمة” ومنعطفات “وادي العق” وبطول المسافة من بيت العائلة بإبراء إلى بوابة بيت الفلج. وكان ظنه أن تكليفات عسكرية صدرت لتحمله إلى ثغر من الثغور فينال شرف تلوين الرمل بدمه ، وسَقْي عطش السدر بأنفاسه ، وإطالة النخل حدّ الاقتراب من الأنجم بتكبيراته ليستحق ككل الذي يستقتلون لعيني الوطن أن تحطّ أنجم الترقِّي على الأكتاف. كان التكليف مختلفا واستثنائيا فعليه أن يقف في مشهد شوق عمان لعودة الروح. ويتابع معها باب الطائرة وهو ينفتح ، والمدفعية وهي تدوي محيية فيتقدم نحو المنصة ليمسك المايكرفون فيجعل الصوت ينفذ بين الأسلاك وشرايين دمه ليصل. كانت المهمة من الثقل لتنوء بحملها الجبال الرواسي لولا القيم العسكرية التي ربَّتْهُ على الثبات ، فأنجز الأوامر كجندي في قوات سلطان مسقط وعمان وعلى رأسه “البريهة” الحمراء المزدانة بالخنجر والسيفين. وفي يونيو من عام ٢٠٢٣م تتكرر في أسرته ذات المايكرفونات الناقلة للصوت والصورة ، ولكن دونما حاجة لمن يمسكها هذه المرة ، لتنقل على لسان نجله سعادة الشيخ خالد المصلحي وكيل وزارة الخارجية للشؤون الإدارية والمالية مواقف عمان في قضايا الساعة. وبين ميكرفون الأب وميكرفون الإبن هناك سيرة شيخ “أبروي” كبر مع الوطن الذي لا يشيخ ، وترعرع في كنف أحلامه العابرة للمكان والزمان. ورغم خروج الشيخ الوجيه هاشل المصلحي من الجيش إلا أنه ظل مرتبطا بعنفوان السيارات الأمريكية الكبيرة ليقارب بها المعدات العسكرية الثقيلة التي عرفها وعرفته ، فكان يقودها في المسافة القصيرة بين بيته في الصاروج والمسجد. وكان ينزل منها كجنرال منتصر وبأثواب مموهة بلون الميدان وغبار الحروب. وكان الشيخ هاشل المصلحي مصلحاً كقبيلته فأفنى العمر في أعمال الخير وفاء لوطن دائن بالكثير. وكان مسكوناً بالوطن حدَّ جعْل مجلسه منتدى لحوارات معمقة تستقطب الغيورين على عمان ، التي يجب أن تسابق وتسبق وتتصدر بما يليق باستحقاقات أمسها وحتمية غدها. وحين يرحل هذا الوجيه الأبروي فإن سجلاً زاخراً من المآثر لن يطوى بل سيتوارث، وأن التكليف لن ينتهي بل سيتداول. وسيظل العابرون لمطار بيت الفلج والمستذكرون لفيديوهات القدوم الميمون يتوقفون عند ذلك الشاب النحيل وهو يتقدم في مشيته العسكرية نحو المنصة بكل اتزان وثبات ليجعل من المايكرفون وشرايين دمه “مكبِّرات” توصيل لصوت انتظرته عمان. ومع العودة الأخيرة للشيخ الوجيه هاشل بن محمد المصلحي إلى مسقط الرأس وقد تحرر من ضغوطات الأسئلة عن الثغور التي سيرابط عليها والرمل الذي سيرويه فإن سيرته الملهمة ستستعاد. رحم الله أبا خالد حيّا فوق الأرض التي أحبها ورحمه تحت الأرض التي سقاها.

زر الذهاب إلى الأعلى