من دفتر ذكريات رمضان في مطرح.. أنا وأخي وقرنقشوه

د /حسن الموسوي
كاتب وباحث عماني
الزمان – الخمسينات والستينات من القرن الماضي
المكان – مطرح وأربق ( غربق)
سرد مقتضب وقبل الإفطار
في مثل هذه الأيام من رمضان وتحديدا في الرابع عشر منه ؛ كنت اخرج وقت الضحى مع اخي الصغير وبصحبة بعض من الأصدقاء الى أربق او غربق لجمع الحجارة هناك .
بعد المرور بمحاذاة الشاطئ المرجاني الضيق واذا كان االجزر كنّا نستمر في المشي الى الرأس الصخري ونأخذ التفافه نصف دائرية حتى نصل الى أربق ؛ واذا كان المد يكون من المستحيل أن نلتف حول الجبل وبالتالي نأخذ مساراً أخر صعباً ؛ فكنّا نصعد طريق الجبل وعندما نصل الى اعلاه كنّا نجمع بعض انفاسنا بعد أن يكون الصعود قد ارهقنا بعض الشئ ؛ ومن هذا العلو كنّا نستمتع بالإطلالة الجميلة المطلة على خليج مطرح واطلالة اخرى مطلة على خليج أربق ؛ أما القلعة الجميلة ذات البرجين الواقعة على جرف جبلي فكانت مطلة مباشرة على خليج مطرح وخليج أربق . طبعاً لم يبق الى هذا اليوم أي أثر لا للقلعة ولا للجبل وللصخور المرجانية كذلك ….
وعندما نصل الى خليج أربق كنت مع اخي الأصغر منّي سناً وزملائي نقوم فوراً بشغف شديد بجمع الحجارة ونختار منها الملساء ؛ الصلدة ؛ المدورة الشكل وما يناسب راحة أكفنا الصغيرة وحجمها ؛ إن مثل هذه الحجارة لم تكن تتوفر إلاّ في أربق . وكنّا نكتفي من الحجارة من العدد إثنتين او أربعة وكل واحدة منها نختارها بعناية ؛ فكنّا في البدء نلقيها بقوة على ارض صخرية صلدة لنتأكد اولا من أن لها صوتاً قوياً وصدىً يتردد وأنها لا تتكسر عند إلقائها ؛ ويستغرق الجمع منّا ذلك كلّه وقتاً كافياً .
هذه الحجارة كانت جزءاً لا يتجزء من احتفالية قرنقشوه وكلما كان صوتها مسموعا عند المجئ الى عتبة البيوت كلما يكون حظ الصبيان من عطاء اهل هذه البيوت أكبر وأوفر حظاً لهم .
وفي ليلة الخامس عشر من رمضان واختصارا معروف لدى العامة والخاصة بليلة نصف رمضان . وهي من الليالي المباركة من ليالي الإسلام ؛ ففي الخامس عشر يصادف ولادة الإمام حسن المجتبى اول سبط لرسول الله صل الله عليه وآله وسلم . لذا يتبرك بها الى يومنا هذا الكثيرون من ابناء الإسلام .
البدء بفاعلية القرنقشوه
بعد أن يتناول الناس الإفطار بقليل كنّا نجتمع في ساحة بيت البرندة وعددنا كان لا يتعدى غالباً خمسة انفار ؛ وبحكم إنني وأخي في المجموعة كنّا إبنىّ عالم دين معروف في البلدة ؛ فكان حظنا موفوراً وعطاء الناس لنا كبيرا . وكان اهل هذه البيوت من النساء أو الرجال كلما سمعوا صوتي وصوت أخي ومن معنا ونحن نردد من عمق حناجرنا وبأصوات عالية ونفس حماسية ونفس الكلمات التالية كان الأخرون كذلك يرددها مثلنا في المجموعات الأخرى :
قرنقشوه يو ناس
عطونا شوية حلوى
دوس دوس في المندوس
حاره حاره في السحارة
قريشياً قريشياً
محمداً عربياً
ثم نطلب بعد هذه الكلمات المعبرة من اهل سكان البيت أن يمنّوا علينا بشئ من الحلوى والمال ثم نضيف :
بيبي شئ ما شئ ؟
اذا كان الجواب بالإيجاب ويأتي ما نتمناه نردد تارة آخرى مع الثناء على الرسول وآله :
قريشياً قريشياً محمداً عربياً
….. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) – سورة يوسف
وكلما مضينا من منزل واقتربنا إلى باب بيت آخر ؛ كانت حرارة الحجارة تنبعث في اكفنا من شدة ضربات الحجارة الواحدة بالأخرى وينبعث صوت مرتفع من تلك الحركة والذي كان يمتزج تردداتها بصوت حناجرنا الصغيرة . كان أكثر ما يلفت انظاري ان بعض أفراد البيوت والذين يكنّون لنا الود والتقدير كنت اسمع بوضوح كلام ربّ البيت او ربّت البيت ويردد الواحد عقب آخرى :
اولاد سيد جايين اولاد سيد جايين …… جيبوا حلوى وفلوس ….
كنت أحظى مع أخي بقطع من الحلوى الطيبة ومبلغاً لا بأس من المال ؛ وهذا الأمر في ايامنا تلك كان القليل من الصبيان تكون لهم تلك الحظوة ؛ رغم المشقة وطول المدة التي كان يقضون في الوقوف عند ابواب البيوت ؛ لذا كان الكثير ممن كنت اعرفهم يحاولون أن يكون في مجموعتنا ؛ لكن اعتدنا انت تكون المجموعات صغيرة ؛ فكلما كان العدد يزيد كان يزيد نفور اهل البيوت منهم ؛ والسبب إن أكثر سكان مطرح كانت حالتهم المعيشية صعبة ؛ والقليل من تكون حالتهم ميسورة . لذا كان العطاء لمجموعة صغيرة اوفر حظاً ولو بشئ قليل من الحلوى والنقّل وبضع من البيسات .
وبعد مضي شئّ من الوقت كانت ابداننا الصغيرة يصيبها الوهن فنرجع الى بيوتنا فرحين بما نالت نفوسنا من عطاء الناس الطيبين لنا …
هكذا كانت ايامنا تلك فيها كل البساطة والقناعة وروح صلة الرحم بين افراد الأسر والجيران والأقارب …..
إن الإرث القديم بكل اشكاله الذي كنّا نعيشه اختفى منه الكثير وإن بقى لم يبق منّه الاّ القليل وقرنقشوه واحدة من ذلك الإرث المحفوظ الى هذا اليوم ببركة محمد وآله الأخيار …
الحنين الى قرنقشوه
بعد عقدين من الغربة وغربة اخي الأكبر كانت أكثر من ذلك بكثير ؛ لذا كان الحنين يشده ويشدّني الى الماضي ؛ويأخذ منّا مأخذا شديدا ؛ خاصة إذا ما حلّ هذا الشهر الفضيل ؛ وخاصة ليلة قرنقشوه ؛ إذ كان أخي يدفعني الى الخروج بعد الإفطار الى خارج البيت فكنت اسير معه خلف الصبيان وهم يرددون نفس تلك الأهازيج التي كنّا نرددها منذ ستة عقود ونستمع اليهم وننظر في وجوههم ونعيد الى ارواحنا بعضاً من ذكريات الماضي الجميل ….
د .حسن الموسوي
البيت – مسقط
١٣ رمضان ١٤٤٣
٤ ابريل ٢٠٢٣





