إنهاء الاحتلال لا يكون بتجذره

تحسين يقين
يتساءل شعبنا بمرارة كيف يتم الحديث عن تسويات سلمية تنهي الاحتلال، في الوقت الذي يجري عكس ذلك تماما، بحيث يكون المطلوب منا هو التسليم بما يملى علينا، وأن نفعل ما يوصف بحسن النوايا، حتى يحسن المحتل نيته!
لو نجمع “تنهيدات أبناء” شعبنا كل حين، فسيتكوّن تيارا حارا؛ ففي كل يوم نرى على أرضنا، ونسمع، لا مجرد القراءة والمشاهدة للأخبار، ما ينغّص عيشنا، فقد أصبح معظم أبناء شعبنا يتعرضون للإيذاء بشكل شخصيّ، ووصل الأمر الى تفاصيل حياتنا.
يتبادل الفلسطينيون في الضفة الغربية أخبار بعضهم بعضا التي ناظمها اعتداءات المستوطنين بموافقة سلطات الاحتلال، أو بتشجيعها؛ فلم تكد الحرب على غزة تبدأ قبل عامين مرّا، حتى تسارع حرب الاستيطان علينا، فأي جنون هذا الذي تفعله دولة الاحتلال وهي توقع اتفاقيات في سياق حلول سلمية؟
لقد وصل الاعتداء مداه غير المقبول قانونيا ولا سياسيا ولا إنسانيا.
كذلك وصل الجنون إلى مدى يصعب وصفه؛ فما الذي يدفع “فتيان التلال” الى هذه الأفعال التي لربما لا يوجد ما هو أقبح منها؟ بل ما الذي يشجّع مستوطن بالإقامة بين جبال البرية هبوطا الى الغور، في “أرض يصفها الفلاحون ب “كفرة نفرة”، أي لا ماء فيها ولا نبات؟
لنترك فعل الاستيطان القبيح وفعل الجنون السياسي لدى معظم ساسة الاحتلال جانبا، ولنتحدث بصراحة، حول ما يجري في فلسطين المحتلة. ولنتساءل هل فقد الاحتلال عقله؟ أم ان فعل الشرّ حين لا يتغير يزداد شرا؟ وهل تفعل دولة الاحتلال فعلها مطمئنة؟ أي هل هي فعلا لا تحسب حسابا للدول العربية مثلا؟ وللمجتمع الدولي؟ وهل تصريحات الولايات المتحدة وأوروبا بشأن الاعتداءات الاستيطانية هي تصريحات حقيقية؟ وهل ترك شعبنا الفلسطيني لقدره يقاوم الاستعمار العالمي وحده؟ وأخيرا هل سيظل شعبنا وحيدا يدافع عما تبقى من كرامة العرب والإنسانية؟
في كلّ صباح، أبدأ نهاري بالأمل، وهكذا يفعل شعبنا وهو ماض لأعماله اليومية، وفي الوقت نفسه، سيصعب فصل تفاصيل هذه الحياة عما نعيشه؛ ففي كل ساعة مثلا، نموضع أنفسنا، أفرادا وأسرا، تجاه ما يجري؛ من حركة وتنقل وعمل؛ فهل يشعر العالم فعلا معنا؟ هل يشعر كم يعاني الفلسطيني من احتلال للنفس والجسد والروح؟
في الضفة الغربية لنهر الأردن، سكنت فلسطين منذ ملايين السنين، كانت فلسطين كلها ضفة غربية، كما الأردن الشقيق، توأم الروح، ضفة شرقية. ثم كان ان ظهر هذا المصطلح السياسي بعد حرب الاحتلال على فلسطين عام 1948، وواكبه مصطلح قطاع غزة، وهكذا، صارت فلسطين أكثر من فلسطين، فلسطين عام 1948، وفلسطين عام 1967، وفلسطين الشتات، باعتبار اللاجئين هم وطن أيضا.
في اليوم الأول لاحتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، بدأ الاستيطان كأهم تجلّ للاحتلال؛ فلم يكن في وعي دولة الاحتلال أنها فقط ستكون دولة محتلة للضفة الغربية وقطاع غزة، أبدا لم يكن في البال مجرد الاحتلال العسكريّ. بل كان الأمر استمرار للاستيطان الذي بدأ أصلا قبل قيام دولة الاحتلال.
كنا أطفالا، نحن المولودون عام 1967، ولم نكد نفتح أعيننا حتى رأينا جيش احتلال متواجدا مع المستوطنين، ولنا ذاكرة كما لدى من ولد قبلنا وبعدنا، كيف ظل الاستيطان ينتشر في بلادنا، ليصل الى مرحلة أنه أصبح “عقدة” من عقد القضية الفلسطينية، فكان ان صارت المستوطنات من قضايا ما وصفت “بقضايا الحلّ النهائي”، وكان لنا (لأننا نحسن النوايا) توقع ألا يجري الاستمرار بالاستيطان، وتغيير الأمر الواقع في القدس؛ فليتنا ملنا مع مال في عدم حسن الظن ولو قليلا بالاحتلال.
يمثل الاستيطان الذي تسارع عدوانه الوقح آخر عامين، أحد أهم نتيجة للاحتلال عام 1967؛ وهو لا يعرف الاستمرار بالفعل القبيح. وهكذا تنسجم سيطرة الاحتلال على الضفة وغزة.
لكن الغريب هنا، هو أن الاحتلال ينجح ليس بالاحتلال فقط، بل بشرعنته، من خلال الوصاية على غزة أولا، ثم محاولة ذلك هنا في الضفة الغربية، وليس معنى إصلاح السلطة الوطنية إلا البحث عمن يشرعن الاحتلال هنا.
إن تضخيم “الإصلاح” أمر فيه شك كبير؛ فلم تكن لا دولة الاحتلال ولا من يقف وراءها معنيا بالإصلاح، بل ان تتبع التقارير الدولية وغيرها يوحي بالتناقض، حيث ان ثباتنا على الحقوق في مراحل سياسية مختلفة، كان يتم ترجمته بفسادنا، وأجزم أنه في ظل قبولنا بشرعية الاحتلال، فسيتم تبرئتنا مما نتهم به.
إنهاء الاحتلال هو مفتاح السلام الحقيقيّ، الذي يقود لعمران باق، لا الى عمران معرض للهدم. وإنهاء الاحتلال له طرقه، وليس منها بالطبع أي شيء يكون هدفه الضد.
حسن النوايا الحقيقيّ هو البدء الصادق ما تم الاتفاق عليه، باتجاه خلق مرحلة انتقالية تهيئنا للدولة المستقلة، لا لتعميق التدخل في حياتنا وعلى أرضنا.
كم هو واضح طريق السلام، والذي لا يمكن أن تكون الحرب إحدى وسائله، وكم هو واضح طريق الاحتلال الذي نلمسه في تفاصيل حياتنا.
ببساطة، لا يمكن للفلسطيني القبول بالاحتلال، وإن تنوع الشكل، فلسنا وكلاء له، ولا ينبغي لنا، وهو يعرف ذلك، وبدون أن نكون في أريحية وطنيا وسياسيا، باتجاه إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال المنشود الذي سيكون ضمانة حماية أرضنا وممتلكاتنا، فلا يمكن أبدا شرعنة وجود القائم بالاحتلال.
جار بالقوة!
لخص العم أبو سمير غريب رحمه الله من بيت إجزا -القدس العلاقة مع المستوطن المحتل بعبارة ردّ فيها على المستوطن الذي أقام بالقوة، حين قال له المستوطن من وراء “السياج” بانه جار له، فأجابه: جار بالعصا!
هكذا الاحتلال وحلفاؤه، كأنهم يريدون من شعبنا تقبل وجود الاحتلال في تفاصل حياتنا، طبعا بالقوة.
وبالقوة يتم فعل التطبيع، كيف تكون علاقات بربكم بين البشر والدول بالقوة!
صعب بهذا المنطق تقبل هذه “الجيرة” لا هنا في جبال الضفة وغورها وسهولها ولا مع الدول العربية..
وأخيرا، فإن طريق التسوية، والسلام معروفة، وهي طريق تتبع نهجا يقود الى إنهاء الاحتلال، لا تعميق تجذره في الأرض المحتلة عام 1967. وآن الأوان لفرض أمر السلام لا سياسة الاحتلال بفرض الأمر الواقع التي لم تحقق إلا البعد عن طريق السلام.





