محمود الرحبي يكتب: موسكو.. النظر وقوفاً

حين وصلنا إلى مطار “دوموديدوفو” (واسمه الرّسمي مطار ميخائيل لومونوسوف الدّولي) بدأ الفرق يتضح، فهذا المطار، وهو أحد أربعة مطارات في العاصمة، تراءى مثل تحفة فنية أو أيقونة من الزّخارف تستقبل عين المسافر.
يشبه سفينة عائمة تتردّد في رحلة بين الآن والتاريخ، بجمعه بين رؤية فولكلورية روسية خالصة وانجذاب تنظيميّ غربي متقن.
لم يكن طقس موسكو حينئذ (يونيو) قارساً، كما كنا نعرفه في أدبياتنا الجغرافية، بل بدا الأمر وكأن الشّمس تهطل مطراً دافئاً، مطراً لا يمكننا سوى الإحساس به، دون ملامسته أو التبلل به. كان شعوراً يصعب التعبير عنه بسهولة، شعور كأنما ينتمي إلى نقطة بعيدة من خيال الذاكرة.
كان أحمد م الرحبي، أو “أحمد موسكو” كما يسميه البعض، في استقبالنا أنا وعلي الصّوافي. في البداية ركبنا قطاراً حتى محطة المترو، ثم خيّرنا دليلُنا بين ركوب تاكسي أو مترو الأنفاق، الذي يخترق أحشاء موسكو، السّاطع منها والمظلم، فاخترنا الحلّ الثاني.
***
مترو موسكو، الذي يتجلى إبداعه الهندسي في عمقه، إذ يصل أحيانا إلى مئتي متر تحت الأرض، ينزل الناس إليه عبر سلالم كهربائية لها أول ولا يظهر لها آخِر، لفرط عمق هذا المرفق الحيويّ في قلب العاصمة الرّوسية. كما يتجلى إبداعه الجمالي في التماثيل والتحف الفنية التي تزخر بها صالات محطاته… يهبط ويصعد، فإذا قابله نهر، يكون تحت الغابات والمدن، ولكنْ حين يقابله سهل فإنه يصعد.
يمتدّ المترو في مجموع مساحته ستمائة كيلومتر مربع، مُوزّعة محطاته في هذا العمق المدهش، بخلاف المتروات في عواصم العالم، فإن الإبداع والجمال في المترو الموسكوفي يكمنان في سهولته، وهذه السّهولة جاءت نتيجة تعميق المترو، فبدل الطوابق، هناك سلّم يأخذك إلى أسفل سافلين، في أعماق الأرض، كأنما تجري مساربها الحديدية في عالم سفلي عشتاري يشبه مدينة حلمية مفصولة، متلوياً بعد ذلك -كأنما هو قطار ليلي- حول الغابات والأنهار؛ ثم صاعداً جهة مشاهد الأسواق والبنايات الضّخمة التي تتفرّد بها موسكو. وفي كلّ محطة كانت تخرج دفعات بشرية لتحلّ محلها أخرى، فيتغير المشهد وتتجدّد رؤية العين العطشى إلى معانقة الجمال. ولكن الشّيء الذي لا يتغير حقيقة هو مشهد القراءة بين الجميع، فمن النادر ألا تجد بين كلّ خمسة أشخاص ثلاثة غارقين في صفحات كتاب، وفي مختلف الأعمار، حتى أولئك الذين اختاروا الوقوف، ما يلبثون أن يفتحوا كتابا وينكفئوا عليه، مُتمسّكين بالكتب بدل التمسّك بمقابض المترو، كأنّ الكتاب والمعرفة هما ما سيحميهم من السّقوط!..
حين وصلنا إلى الفندق، ذي الخمسة والثلاثين طابقاً، سألتنا سيدة الاستعلامات ما عملنا، فأجابها أحمد “إنهم كتّاب”، فقالت إذن هم تجّار!.. وشرح لنا أحمد -في ما بعد- أن الناس في روسيا يعتبرون الكتّاب تجّاراً، لأن أقلّ عدد نسخ تُطبع من أيّ كتاب هنا هي مائة ألف نسخة! وزد على ذلك كثيرا إذا تعلّق الأمر بكتّاب كبار…
في طريقنا إلى السّاحة الحمراء، وهو المعلم الأهمّ في موسكو، كان بصحبتنا طالب عمّاني ظريف وصاحب نكتة حقيقي، اسمه يحيى البوسعيدي. وحين اقترب بنا من تمثال ضخم للغاية، سألَنا هل تعرفون من هذا، ثم أجاب ضاحكاً، قبل أن يسمع ردّاً على سؤاله: “إنه شيخ تميمة الرّفاق”.
كان تمثالا ضخماً للينين، الذي يحتلّ مكانة اعتبارية متميّزة لدى الرّوس، حتى إنّ ضريحه في السّاحة الحمراء يغصّ بالزّوار، وفي طوابير طويلة تحتاج أحياناً إلى عشر ساعات من الوقوف قبل رؤية جثمانه المُحنّط في صدر السّاحة الحمراء.
كان مشهد السّاحة الحمراء مبهراً، قبلها كان المبنى الشّاهق لـ”الكرملين”، فالعين تصاب بالحيرة لطبيعة الضّخامة التي يبني بها الرّوس معالمهم.
كانت السّاحة مستطيلاً مُمتدّاً، محاطاً بالأبنية وبكنيستين هائلتين، امتلأتا بـ”المصلين” و”المصليات”، اللائي تضع كلّ منهنّ حجاباً للشّعر بمُجرّد ما تدلف إلى حرم الكنيسة.
لكنْ كان أكثر ما استوقفني في السّاحة الحمراء ذلك النهر الاصطناعي المُرصّع بمُجسّمات للحكايات الأسطورية الخالدة، كحكاية “سندريلا والأقزام السّبعة” وحكاية “الأمير والضّفدع” وحكاية “الأميرة والوحش” وغيرها من الملح الإنسانية المعروفة. كلّ ذلك كان منحوتاً من الصّخور التي تعوم فوق بحيرة منقوشة أرضها بقطع فسيفساء زرقاء.
موسكو، التي تعدّ ساحة ضخمة للمتاحف، حيث يوجد في محيطها أكثر من عشرة متاحف، متحف “تريتوكوفسكي”، الذي يعدّ ثاني أكبر متحف في روسيا كلها، بعد متحف “لارميتاج”، الذي يوجد في سان بطرسبورغ، وتوجد فيه معظم لوحات الفنانين المعروفين، كان مُرصّعاً بجدارياته الضّخمة وبأقسامه وأروقته المُتشعّبة، التي تحتاج إلى ساعات طوال. فزيارة متحف في موسكو يصعب أن تتم في ساعات قليلة، لأن جناحاً واحداً، بتفرّعاته الخفية، يمكن أن يستغرق منك أحياناً نصف يوم، وهذه حقيقة لا مجاز.
وبالقرب من السّاحة الحمراء، يتصدّر تمثال الرّوائي الرّوسي الأشهر دوستويفسكي بوابة “مكتبة لينين”، ثاني أكبر مكتبة في العالم، بعد مكتبة الكونغرس في الولايات المتحدة. فقد كان الوجه الملتحي لصاحب التمثال يختزل، أمام زحمة السّائرين حوله، تاريخا طويلاً من السّرد العميق، الذي ما زال يفتن العالم حتى اليوم، خاصة بعمليه الكبيرين “الجريمة والعقاب” و “الإخوة كارامازوف“.
في طريقنا إلى اتحاد الكتاب، مررنا بجامعة موسكو العريقة، وكان المبنى من الضّخامة بحيث يجعل الناظر ينسى رقبته المرفوعة، ولا ينتبه سريعاً إلى نداءات الألم. كان مبنى تلك الجامعة بحقّ تحفة فنية محاطة بحديقة لأشجار عملاقة يتنزّه بينها الطلبة بدرّاجاتهم الهوائية أو بالكراسي المعلقة في الفضاء بأسلاك تنقلهم من جانب إلى آخر.
الناس يمتازون بلطف مضمر غير واضح، ويصعب تبيّنه بسهولة. وأذكر أننا سألنا بالصّدفة سيدة كانت جالسة أمام مبنى جامعة موسكو تقرأ كتاباً، عن تاريخ بناء هذه الجامعة، فما كان منها إلا أن أخذت هاتفها واتصلت بزوجها، الذي يعمل أستاذاً في الجامعة نفسها، وخاضت معه في حديث طويل، وهي تلتقط منه معلومات دقيقة عن الجامعة:
“تحكي القصة أن لومونوسوف، هو عالم وفنان روسي كبير، جاء مشياً من سان بطرسبورغ لمقابلة كاثرينا، زوجة القيصر، هو من أوحى بالفكرة. وكان غرضه من ذلك أن تكون الجامعة في متناول جميع أبناء الشّعب. أعجبت الملكة بالفكرة وأقنعت زوحها الإمبراطور، فتمّ بناء الجزء الأول من الجامعة في ظرف خمس سنوات، حتى إنها سُمّيت “جامعة لومونوسوف”، وهذا الاسم لا ينطق عادة إلا في المخاطبات الرّسمية كأن نقول في المخاطبات “جامعة موسكو -لومونوسف” واختصارا نقول “جامعة موسكو”. وقد اكتملت مراحل بناء الجامعة التي سمّتها الإمبراطورة باسم مقترِح بنائها في ما بعد، خلال عهد ستالين. والآن فإن هذه الجامعة لم تعد تستقبل إلا أصحاب المعدّلات المرتفعة من جميع الجمهوريات الرّوسية”.
حين وصلنا إلى اتحاد الكتاب الرّوس، كانت في استقبالنا مائدة مستديرة، يؤمّها إليغ بافيكين، مسؤول العلاقات الخارجية في اتحاد الكتاب. أبلغَنا في البداية اعتذار رئيس الاتحاد عن الحضور لأنه في إجازة خارج موسكو. وكان يتحدّث بلغة عربية متقنة وسليمة من الأخطاء، كما كان يترجم للذين معه. مكثنا برفقته طويلاً، وكنا جميعاً نشارك في الحديث. وعرفنا منهم أن هذا الاتحاد مُستقلّ في إدارته، التي تُنتخب دورياً، وأن ثمّة اتحاداً آخر غيرَ مُستقلّ، وهو ذو طبيعة ليبرالية، مدعوم من أوروبا ويخضع لشروط دعائية، بحسب ما أخبرونا.
كما عرفنا أن لديهم جوائز تحمل أسماء كبار الكتاب الرّوس (بوشكين، دوستويفسكي، تولستوي، ماكسيم غوركي، تشيخوف، ليرمنتوف… إلخ.) وفي كلّ عام تحمل الجائزة اسماً من أسماء هؤلاء العمالقة -أساتذة العالم في السّرد- وتُمنَح عادة لكاتب مبتدئ، فتتحول حياة ذلك الكاتب بعد أن يطبع له الاتحاد قرابة المئة ألف نسخة.
كما أخبرونا بأنهم يطبعون لجميع الكتاب مجّاناً، وبأن ريع ميزانية الاتحاد يأتي مما يتبرّع به الكتّاب أنفسهم، وكان الشّاعر أناطول ياناتوليفيتش يمتلك جريدة يديرها بمجهوده وماله الخاص، وهو شاعر حسّاس للغاية، فكان حين يتحدّث تسبقه الدموع. وكثيراً ما يعقد مقارنات مؤلمة بين ما كانت عليه روسيا وما أصبحت عليه.. كان يقول لنا مثلاً إن الناس كانوا يقرؤون أكثر من الآن، وذلك بعدما عبّرنا له عن إعجابنا بالعادة الجميلة التي عليها الناس بانكبابهم على قراءة كتاب في كلّ مكان.
الرّوائي والمستعرب بافكين، الحائز على جائزة الدّولة، جاء مُتأخّراً، وقد بدا مرتبكاً وهو يُعرب لنا عن أسفه، فما كان منه إلا أن دخل مكتبه وأخرج حزمة من مؤلفاته وسألنا إن كان أحدنا يقرأ الرّوسية، فأعطى الكتب جميعها لأحمد.. ثم دخل مرّة أخرى إلى مكتبه وأخرج كاميرا رقمية وأخذ يمطرنا بالصّور وقتاً طويلاً.
صورة العرب واحدة لديهم، فهم لا يُفرّقون بين لبناني ومصري ومغربي وجزائري وعمّاني ويمني، فكلهم عرب تجمعهم خريطة نفسية واحدة ولغة واحدة، حتى إنهم أخرجوا لنا قائمة لروائيين عرب، من حوالي أربعين كاتباً، وقد اختاروا بالتعاقد مع اتحادات الكتاب في الوطن العربي أهمّ رواية لكلّ كاتب. كان الاختيار موضوعياً إلى أبعد الحدود، فأشهر الرّوايات العربية كانت موجودة في القائمة وكذا غيرها من الرّوايات الأقلّ شهرة وأهمّية وقالوا إنهم سيُوزّعون هذه الرّوايات على مختلف فروع الاتحاد في الجمهوريات الرّوسية، حيث يوجد في كلّ منها مترجمون من العربية إلى الرّوسية. وقد بدؤوا فعلاً بالانتهاء من خماسية “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف وبعض روايات نجيب محفوظ ورواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري.
كانت رحلة قصيرة (ستة أيام) لكنها مذهلة، بتفاصيلها التي يصعب أن تفارق الذاكرة سريعاً.





