لَســـتُ مــــن ددٍ..

بقلم/ د. اسحاق بن أحمد البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

اذا كان يعتقد البعض أن الله لم يخلقهم إلا للعبث بما يملكون، أو بما سخره الله لهم أو وكّلوا به، فقد أساء هؤلاء الظن بربهم، وجهلوا جهلًا بالغًا في حكمة الخلق، وأساءوا الأدب مع خالقهم الذي لم يزل مُذ خلق الانسان نطفة وهو يتولاه بالحكمة وبالرحمة، وبتغذية عقله الفطرة السليمة، وما يصلح هذه النفس والعقل ابتداءً وما يصلح الانسانية الكبرى انتهاءًا.

في أي طريقة أو منهج وُجد أن الانسان ليس له شأن في هذه الحياة سوى اللهو واللعب بما منحه الله من مقدرات ومواهب وإمكانات، ويتعمد أن ينزع كل خيرٍ  وكل سببٍ من أسباب الحياة القويمة منها، ويدس فيها كل نتنٍ وقذر، وكل شر مستطر، ويظهره للناس في صورة مجملةٍ يخدع فيه العوام والهوام، لا لشيء سوى أن هذا الانسان لا بغية له ولا مطلب من هذه الحياة، إلا أن يشار إليه ويقال هذا فلان الذي.!!

أنا لا أستطيع أن أميز الفرق بين رجل أستغل نفوذه وسلطته في التعدي على أموال الناس وسرقتها، وبين آخر استغل منصبه ومكانته في كتابة وتقديم عمل فني تجاوز فيه حدود الأخلاق، وهتك به أستار الحياء، فلا فرق بينهما فكلاهما مجرمٌ متعد، فإن كان الأول تعدى على أقوات عيشهم، فقد تعدى هذا الأخير على شرف المجتمعات وصورها صورة قذرة بشعة، وعمم فكره القاصر وعقله المريض عليها، وهي تصارع دفع الفتن والشرور عن أبنائها وبناتها، والحفاظ عليهم من ظلم المادية وحيوانيتها.

ولو جاز لكل انسان أن يفعل ما يشاء وما يريد وفق ما تملي عليه شهواته وغرائزه، وما يملي عليه عقله دون وازع أو مانع، لفسدت الأرض، وفاحت رائحة الجور والظلم، وطغى البطر والكبر، وانتشرت الخبائث، وكان باطن الأرض خيرًا للانسان من خارجها.

تابعت كغيري من المهتمين بشأن الانسان في هذا العصر وما يعرض عليه وعلى مجتمعه من التقدم المادي،  خاصة بمواسم الرحمات ومواسم اليالي والأشهر العظيمة التي فضلها الله عن غيرها، حيث رمضان الذي ودعنا هذه السنة والغصة لم تفارق قلوب المصلين، ولم تغادر اذهان القائمين العاكفين، لما وجدوه من أعمال فنية كما يسمونها، دخلت بيوتهم وتعدت على أولادهم وبناتهم، عدت خصيصا لاستقبال هذا الشهر الفضيل، كما جرت العادة في كل عام ، أقف هنا على ثلاثة أنواع منها وهي غيضٌ من فيض.

أولاًً: الدراما التليفزيونية التي جاءت بمسلسل عد خصيصًا للمشاهد في شهر رمضان الكريم، تناول فيه شيئا من قضايا الانسان، وألصقها وعممها عمدًا على المجتمعات، ولا تزال تتكرر على مدار السنوات، والذي تابع هذه المسلسلات خلال السنوات الماضية،لا أضنه وجد الانسان إلا على أشكالٍ ثلاث.

فبدأ بالشاب في سن ما قبل المراهقة، وصور اهتماماته بأنها لا تتعدى إلا أن يكون لصًا متخصصًا في سرقة الطيور أو الأرانب من بيوت الجيران، أو أن يكون عبقريًا وموهوبًا فيسرق الأجهزة الإليكترونية ليواكب التطور، ثم تناول حياة الشاب في سن ما بعد المراهقة، والذي ليس من شأنه الا أن يكون متعاطيًا مدمنًا للمخدرات والمسكرات أو يكون مروجًا لها لأصحابه ورفاقه، مبررًا ذلك لما تعرض له من ظلم الطفولة.

ثم انتهى الكاتب بحياة الفتيات المراهقات وغير المراهقات، ووجههم الى طرق الحياة العصرية المتطورة، وكيف أن الآباء والأمهات يمارسون ظلمًا كبيرًا تجاه أبنائهم وبناتهم، وجاء بإسلوب الحياة التي يجب أن تعيشها الفتاة من الحرية والتطور، وأن تتعلم بعضًا من المصطلحات الحديثة، أو التي تكون بعيدة عن فهم الآباء والأمهات، لتحتال عليهم في خروجها ودخولها بالحرية التي تريد مع صديقاتها، أو أن تتعلم شيئًا من فن الاغواء، وتتحرش ببعض الرجال طمعًا في الزواج منهم، والاستيلاء على أموالهم، ما هي الرسالة العظيمة التي أرادوا إيصالها للشاب والفتاة؟ لماذا أرهق هؤلاء فكرهم وأتوا بكل هذا الابداع العظيم في تصدير هذه الصورة الخرافية عن الشاب والفتاة؟

ثانيا: استوديو إحدى القنوات الشهيرة، قدم فقراتٍ منوعةٍ على مدار السنوات والأعوام، يدعي أصحابها بأنها الكوميديا الهادفة، وأنها تحمل أفكارًا ورسائل عظيمة للأمة، والمتابع لهذه البرامج والفقرات  يجد أنها لا تلامس في ظاهرها إلا الاستهزاء بالآخر، ولا تعني في جوهرها إلا استحقار المرأة واستخدامها كأداةٍ رخيصة ، حيث تصور المشاهد بهيمية المرأة وأنها لا تستطيع فهم الرجل وما يقصده، ثم يقوم ذلك الرجل الأهوج بركلها بطريقة قذرة قبيحة، أو يقوم أحدهم بحركات وايحاءاتٍ جنسيةٍ فارغةٍ، يتناوب هو وصاحبه دور الرجل والمرأة في أشكالها دون حياء ولا استحياء، والمسوغ عندهم في ذلك هو أنهم استأذنوا المشاهد في الإعلان التسويقي بأنهم سيتجاوزون حدود الأدب والحياء، وعلى المشاهد أن يقبل ذلك وأن يسامحهم فيه، هل يعد هذا من الكوميديا الهادفة أم الكوميديا….؟

ثالثا: برنامج المقالب الشهير الذي يدعي صاحبها بأنها من المقالب المضحكة، فيبدأ الإعلان عنها مستعطفًا المشاهد بالصلاة على النبي الكريم، وأنه يبذل جهدًا خرافيًا على حساب صحته ووقته في سبيل إسعاد المشاهد طوال ليالي الشهر الكريم، والمتابع لهذه الحلقات طوال السنوات الماضية يجد أن صاحب هذا البرنامج قد عجز عقله وفكره بأن يأتي بالجديد أو  أن يأتي بشىءٍ من المفيد.

 فلا تتعدى أساليبه مع المخدوعين من ضيوفه عن أمرين، إما بتقييدهم على الأسّرة أو الكراسي الكهربائية ورفعهم الى السماء ثم يهوي بهم الى الأرض تحت الصراخ والصيحات وانكشاف العورات، أو أن يقوم بضرب الضيف في وجهه بطبق من الكعك الممزوج بالعدس وبأنواع البقوليات وغيرها من أنواع الأطعمة ، ثم يزج به في غرفةٍ معلقةٍ تلفه لفًا وتدور به حتى تنخلط أضلاعه، وتتكسر عظامه تحت أكوام من القذارة والأوساخ، ثم يقوم باحتضانهم وطلب العفو منهم بعد أن يهمس في آذانهم عن حجم الجائزة التي ستقدم لهم.

وما سذاجة الفن؟ أما انها ليست حلقاتٍ كوميديةٍ أو مقالب مضحكةٍ أو دراما مملة، ولا شيئًا من هذه الأعمال التي زادت وامتلأت البيوت والمجالس منها، بل هي تلك المعاني وما وراءَها من مقاصد العبث والشرور، ومقاصد الأهواء والشهوات. فتنتهي ما تحمله تلك المعاني من قبحٍ وشؤم بما تحمله تلك المقاصد من سفه وسفه، فيتولد منها فعلاًً وعملًا كهذا الذي ضُرب مثلا.

وما عسى أن تكون هذه البرامج وهذا التنافس وهذا الظهور وكل ما الى ذلك من مدلولات الفن كما يسمونه هذه الأيام، إلا ظاهرًا من الأقوال والأعمال لا أدري الى ماذا أنسبها، فلا هي من الاحسان في شيء فأقول برًا، ولا هي من أعمال الصائم فأقول أجرًا، ولا من شيء أعرفه ولا من شيءٍ لا أعرفه لأنها ليست من الأشياء ولا الأشياء منها.!!

ولعمري اذا كان الآباء والأمهات يتعلمون ويحرصون على تعلم ما يتجاوز به أبنائهم قساوة هذه الحياة وفتنها، ومرارة أقدارها ، فألزمتهم في نظري هذه الأعمال أن يتعلموا كيف لهم أن يدفعوا عنهم لِوث حاضرهم الذي أخضعه هذا الانسان لشهوات عقله ونزواته، فاستحكمت حيوانيته وتمكنت فلم يعرف الانسان من سائر الحيوان، وما طغيان الشهوات والرغبات إلا إذلال العقل، وما إذلال العقل إلا الضياع والموت، وما الضياع والموت إلا الذي يسمونه اليوم الفن.

ولا أحسب الفن الذي يأتي بهكذا أعمال وأفعال إلا شقاءٌ وتعاسة، لا يكاد ينفك صاحبها منها لأنه في مقدماتها ومبدئها الفضيلة والخير، وفي نتائجها وانتهائها الرذيلة والشر ، تصيب الضمير والقلب بهمّ وأيُّ هم، فقد ابتاعوا الفن وباعوا على الشباب ظلمًا وجورا، وقد ابتاعوا الهوى وباعوا على البنات حريةًً وفجورا، فابدلوهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأبدلوهم بالعافية مرضًا وبالعفة سفورًا، وأبدلوهم بالاستقامة ضياعًا وبالهداية والصدق زورا، فلم تستقم لهم الحياة ولا استقاموا هم بالحياة.

فليعلم أحدنا أنه ما دام هؤلاء وأمثالهم الذين يتعاقبون السنة بعد السنة في انتاج مثل هذا الفكر، وبثه على الصغير والكبير، وأصروا على هذه التفاهات المرة تلوا الأخرى، فمعنى ذلك لا يتعدى من أمرين، الأول أن المشاهد لم ينضج بعد وليس في قيمته وقدره الا هذه الأعمال، والثاني أن الكتَّاب  قد فقدوا جزءًا كبيرًا من عقولهم لم يستطيعو إدراك شيءٍ من رشدها، وكأنني أرى أقلامهم تنجست بآثام محابرهم، وما أشبه كتاباتهم أن تصير ألة من آلات القتل والجريمة، لأنها ما أن توضع على ميزان الفن بمعانية الحقيقية ، تجدها تميت كل خير وكل ما يتصل بها من خير موتًا خالدًا لا حياة بعده.

ليت نثري هل سيأتي أمثال هؤلاء بالجديد النافع للشباب يومًا، أم سيأتي أمثال أولئك بالقوي المانع للشابات يومًا، أم أنهم يتجاوزن ذلك وسيأتون بالنقي الساطع للمجتمعات دهرًا؟ أم أن شأني وشأنهم كالذي قدم وعظًًًا لإبليس!! 

زر الذهاب إلى الأعلى