التحوّل الرقميّ يعيد تشكيل التواصل الإنسانيّ ويضع الأسرة والمجتمع أمام مسؤولية التوازن بين الواقع والافتراض

مسقط في 15 أكتوبر /العُمانية/لم يعد التحوّل الرقمي مجرد تطور تقني فحسب، بل أصبح عنصرًا أساسيًّا في تشكيل الحياة الإنسانية المعاصرة، بعدما تمددت التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، لتعيد صياغة مفهوم التواصل الإنساني الذي كان قائمًا على اللقاءات المباشرة والمجالس العائلية. ومع انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت الشاشات تُجسّر المسافات لكنها في الوقت نفسه تُعمّق الشعور بالعزلة.

هذا التغيّر لم يقتصر على المظاهر الاجتماعية الظاهرة، بل مسَّ جوهر التجربة الإنسانية وأعاد تعريف مفهومي القُرب والبعد. وتُعد الأسرة، باعتبارها النواة الأولى للمجتمع، الأكثر تأثرًا بهذه التحولات، إذ تواجه تحديًا في المواءمة بين مواكبة العالم الرقميّ السريع والحفاظ على التواصل الحقيقي بين أفرادها.

وفي هذا السياق، تؤكد الدكتورة ريا بنت حمد المعمرية، أستاذ العمل الاجتماعي المساعد بجامعة السلطان قابوس، أن الحل يكمن في إيجاد توازن واعٍ بين استخدام التكنولوجيا ومتطلبات الحياة الواقعية، من خلال وضع ضوابط لاستعمال الأجهزة الذكية وتعزيز اللقاءات العائلية والأنشطة الاجتماعية، بما يجعل التقنية وسيلة داعمة وليست بديلًا عن العلاقات الإنسانية المباشرة.

وتشير إلى أن المستقبل لن يخلو من تنامٍ في الاعتماد على الوسائل الرقمية، خاصةً مع تطور الذكاء الاصطناعي والمنصات التفاعلية، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة تراجع العلاقات الاجتماعية، بل قد يعززها إذا ما استُخدمت التقنية بمسؤولية. وتؤكد أن التحدي الحقيقي يكمن في قدرة المجتمع على توظيف التحول الرقمي لترسيخ قيم التضامن والتكافل، بما يتناسب مع الهوية العُمانية.

وتدعو المعمرية إلى ترسيخ التربية الرقمية عبر المناهج التعليمية والبرامج التوعوية الموجهة للأسر، إلى جانب دعم المبادرات التي تمزج بين التفاعل الواقعي والافتراضي، وتوفير فضاءات عامة تشجع على اللقاء المباشر، مع إبراز نماذج رقمية إيجابية تُحسن توظيف التقنية.

من جانبه، يوضح عبد العزيز بن سليمان العوفي، خبير تقنية المعلومات، أن التحول الرقمي يمثل نقلة نوعية في أسلوب التفكير والتواصل، إذ أتاح الإنترنت تدفقًا هائلًا للمعلومات وشكّل شبكة تواصل عالمية واسعة. ويُشير إلى أن المجتمع العُماني، كغيره من المجتمعات، شهد تحولًا في أنماط التواصل، حيث حلّت اللقاءات الافتراضية محل المجالس التقليدية في كثير من الأحيان.

ويؤكد العوفي أن هذا التحوّل لا يعني بالضرورة ضعفًا في الروابط الاجتماعية، بل إعادة تشكيل لها بطرق جديدة، فالتواصل الرقمي قرّب البعيد ووفّر منصات للنقاش المشترك والعمل الجماعي رغم المسافات. ومع ذلك، يحذّر من الإفراط في الاعتماد على هذه الوسائل دون توجيه أسري ومجتمعي رشيد.

ويرى أن ثقافة التواصل الرقمي فرضت أنماطًا جديدة في التعبير، كالردود السريعة والرموز التعبيرية، لكنها في المقابل أضعفت بعض القيم التقليدية مثل الإنصات واللقاء المباشر. وهنا يبرز دور الأسرة في ضبط الاستخدام وتوجيه الأبناء نحو الاستفادة الإيجابية من هذه الوسائل.

أما الباحث في علم الاجتماع، يونس بن سالم المعمري، فيشبه الأجهزة الذكية بالأدوات الحادة التي قد تُستخدم للبناء أو للإيذاء، مؤكدًا أن الخطر يكمن في خضوع الإنسان لخوارزميات الشركات الربحية التي صممت تطبيقات تُبقي المستخدم في دوامة رقمية مستمرة. ويشير إلى أن هذا الواقع خلق حالات من الانعزال والابتعاد عن التواصل الحقيقي، وخاصة لدى الفئات الناشئة.

ويدعو إلى وضع آليات اجتماعية ضابطة، مثل تنظيم لقاءات عائلية دون شاشات، والخروج إلى أماكن خالية من الإنترنت، بل وحتى تدخل السياسات العامة لدعم برامج تتوافق مع القيم المحلية.

ويُضيف سلطان بن محمد القاسمي، المختص في التواصل والإعلام، أن التحوّل الرقمي أوجد ثقافة جديدة في التواصل غيّرت بعض القيم مثل الخصوصية والاحترام، لكنه في المقابل فتح مجالات واسعة للتعبير والمشاركة المجتمعية وخاصة للشباب والنساء. ويتوقع أن المرحلة المقبلة ستشهد مزيدًا من الاندماج بين الواقع والافتراض بفضل الواقع الافتراضي والتصوير ثلاثيّ الأبعاد، مع بقاء الحاجة ملحّة للتواصل الإنساني الحقيقي.

ويختتم بالقول إن المجتمع العُماني قادر على الاستفادة من هذا التحوّل دون فقدان هويته، إذا ما وُجّهت التقنية لتكون جسرًا للتواصل الإيجابي، لا حاجزًا بين الأفراد.

زر الذهاب إلى الأعلى