الخطاط محمد القاسمي .. يضع آخر نقطة في السطر

عبدالعزيز بن حمد العجمي
قبل أن أضعَ آخر قطعةٍ في حقيبة السفر؛ هاتفتُ أخاه أ.عبدالله قاسم فور معرفتي بالوضع الصحي لفقيد الدواةِ والقلم، الخطاط المعروف محمد القاسمي، ثم تواصلت مع غيره من العائلة نفسِها، ولم تكنِ الردودُ مطمئنةً، غير أنها كانت مستسلمةً للقضاء والقدر؛ فعلمت حينها أن الأحبارَ تختنق في أعناق الأقلام، وأن أناملَ الخطاط العماني المبدع محمد قاسم أفردتها اللحظات الأخيرة، وهي التي كانت تلوي أعناق المدود، وتنحت كُتَلِ الرقعة والنسخ والديواني والكوفي، وتخلط الألوانَ لتدهشَ العينَ التي تحب الخط العربي الأصيل.
معرفتي بهذه الشخصية الهادئة جدًا، منذ أيام الطفولة حيث لم يكن للفراغ مجالٌ في حياة هذا الشاب المتحمس للحياة؛ فقد استلهم من البحر عمقَه ولونَه ونشاطَه، وهو يرى والدَه -رحمه الله- يروّض أمواجَه العاتية.
وعرفت الفقيدَ الطيّبَ خلال تعاملي معه في أنشطةٍ ثقافيةٍ مختلفةٍ، وتأصّلت العلاقةُ الفنيةُ من خلال تعاوننا مع مجلة (أصايل) المعروفة بالتراث وأنشطة الخيل والهجن؛ فقد كان الفقيدُ هو العلامة الفارقة في إبراز جماليات الخط العربي حيث كانت تكتب العناوين بأنامله الذهبية، وقد أيدع في رسم شعار المجلة، وأتقن في رسم شعارات شهيرةٍ ومعروفةٍ تدهش العين، ليس المجال مناسبًا لاستعراضها.
الفقيد العزيز قامةٌ وقيمةٌ، لا يرضى بالحد الأدنى من العمل، ولا يقبل أن يقرن اسمه إلا بالتميز.
ويكفيه فخرًا أنه أحدُ العمانيين الذين زخرفوا المصحفَ العمانيَ الشريفَ خلال رحلة عملٍ مخلصٍ، دام سنوات، ونرجو أن يكون ذلك في ميزان حسانته.
في أحد اللقاءات التي دارت بيننا؛ استعرضنا بعضَ اللوحات التي وضع فيها أنفاسَه وروحَه، وجمع فيها إبداعَ الدنيا، وما زلت أتذكر كيف أبدع غاية الإبداع في كتابة الآية الكريمة “فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ” وغيرها من الآيات القرآنية الكريمة، ويومها قال لي: “إن القرآن ملهما في كل المجالات، وهذه الآية مستعد أكتبها بأكثر من فكرة”
فارتباط هذا الرجلِ الفذ بالقرآن الكريم ارتباطًا روحيًا.
وهو الذي أهدى سماحةَ الشيخ الخليلي-حفظه الله- لوحاتٍ إبداعيةً فيها من مصاديق ما تقدم.
كما استعرضنا لوحاتٍ خاصةً كان قد أعدّها هدايا لبعض الشخصيات المرموقة في الدولة، وبعضها تم طلبها من جهاتٍ معتبرة، وكل لوحة يشرح أبعادها وفلسفتها؛ يأخذك فيها إلى عالمٍ لا يوصف من الجمال الحسي والروحي.
ولم يكن المرحوم محمد القاسمي ناجحًا في مجال الخط العربي بأنواعه؛ بل كان شاعرًا مبدعًا لم يلقَ نصيبه في الانتشار، وربما كان ذلك بسبب انشغاله بالخط العربي.
اليوم بضع هذا العزيز آخر نقطةٍ في نهاية السطر، بعد أن وضع جميعَ علامات الترقيم في إبداعاته الكثيرة.
رحل في صمتٍ مطبق، بشبه الهدوء والصمت الذي عاشه طوال حياته؛ فهو الرجل الذي لم يؤذي أحدًا، ولم يكدْ أحدٌ يسمع صوته.
يرحل عزيزَ النفس، كريمَ الطبع، سمحَ التعامل، غاية آماله وطموحاته ترتبط بمستقبل الخط اليدوي.
رحيله خسارةٌ كبيرةٌ للخابورة وعمانَ كلِّها؛ بل خسارة للفن الإسلامي والخط العربي.
وستبقى أيها العزيز ملهمًا للمبدعين، وحافزًا للموهوبين، واسمًا نتذكره كلما أمعنّا النظر في كتاب الله الحكيم من خلال المصحف العماني، الذي سنسترق النظر إلى هوامشه الجميلة لنقول: (رحمك الله يا محمد).





