في مسجد “بني أنيف” بالمدينة المنورة نستدعي الاطلالة النبوية من ثنيات الوداع

حمود السيابي

حمود بن سالم السيابي

أقف والإبن مازن عند مدخل مسجد “بني أنيف” نستعيد إصباحا لا كالإصباح ونستذكر ناقتين مرَّتا بثنية الوداع لا كالنوق. يومها فرش المهاجرون والأنصار أغلى وأطول سجّادة في بروتوكولات الاستقبال. لكن السجادة لم تكن بحمراء كالمتعارف عليها في الألوان ، بل سبيكة من جواهر الشوق. وقطيفة من الأهداب الممسدة بالأثمد واللاصف. وديمة بلورية من دموع الفرح انهمرت لتبلل حجارة حرّة المدينة من “طريق الظبي” شرقي “جبل عير” وإلى ثنية الوداع في “عصبة بني أنيف” فبستان المستظل في ضيافة كلثوم بن الهدم ، فقباء حيث بركت الناقة وتأسس أول محراب في المدينة وانتهاء بمسجد الرسول حيث بركت القصواء “فإنها مأمورة”. أقف ومازن حيث كانت يثرب تخرج كل صباح مشياً وحبْواً ممتشقة سعف نخيلها الأخضر لتشهد مراسم اسقبال خير زائر عرفه الكون. كنا في قلب الحدث ولكن بأثر رجعي ، فيا لليوم الاستثنائي الذي لا يتكرر. يا للموكب الذي لا قبله ولا بعده. يا للمكان الذي لا يشبهه مكان يا للمناسبة التي ما زالت تبرق بفرحة الوصول للتَّوْ رغم مضي ألف وأربعمائة عام. أغمضتُ عيني لأدع شريط وصول الموكب النبوي الذي حفَّتْه الملائكة واستظل الغمام يصوِّر نفسه. كانت القصواء في شريط القدوم الميمون تتقدم الموكب النبوي وعلى ظهرها سيد ولد آدم الشافع المشفع ، وتتبعها ناقة “ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”. اكاد استشعر اقْترابَ الموكب الكريم من “جبل عير” فكانه يهتز. وكأني بالموكب يرتقي ثنيات الوداع في “العصبة” وقد تساوت الآكام. وبلغ الركب المبارك موضع “بني أنيف” حيث نقف فنسيتُ ما تعلمته عن حيادية عمل المراسل الصحفي لأجد نفسي فردا ضمن الحشود أمد يدا تجاه خطام القصواء لأدعوها تبرك في منازل العماليق من “بني أنيف” رغم إنني لا أعرفهم ، ولكن لأن منازلهم عند أولى الثنيات. ما زلتُ في المكان أتابع تسلسل المشاهد حيث قدَّمَ بنو عوف دعوة باسم شيخهم كلثوم بن الهدم ليستريح الركب النبوي في بستان المستظل. وتوالت بقية الجموع المستقبلة في مد أياديها نحو خطام القصواء لأن تبرك في ديارهم ليتقلدوا شرفا ستذكرهم به الدنيا منذ المبعث النبوي وإلى يوم النشور.وبين الوعي واللاوعي أتجاوز عن سابق إصرار وترصد الالتزامات المهنية في التغطية الصحفية للمناسبة وأشاطر الأنصار والمهاجرين في توهج المشاعر دونما اكتراث لكل لوائح الانضباط المهني أمام هذا المجنَّح بين سماءين ، والقادم من أم القرى إلى يثرب ليبدأ كتابة التاريخ. وفي مناسبة استثنائية كهذه لا بد للنراسل الصحفي من خلع جلباب الوسطية لينحاز للون الأبيض وللفجر وللنهار. مر الموكب النبوي وأنا مغمض العينين في “بني أنيف” وكأنني رأيته في البدر الذي طلع ، وفي النسيم البارد الذي هبَّ من حقل الورد والخزامى والجلّنار والآس والنسرين والياسمين. لقد مر الموكب حيث نقف ثم استدار صوب بستان المستظل لأيام عند شيخ بني عوف ، ثم تنزل الأمر الإلهي بالبدء بأول مسجد في المدينة في قباء ليبادر صلوات الله وسلامه عليه بحمل أول حجرة كبيرة كأساس للبناء فتبعه الرضي الصديق فالرضي الفاروق فبقية الصحابة. أطالع موضع بني أنيف وقد تمنى لو توقف الركب عنده ولكن ذلك لم يحدث فواسته بعض الكتابات بأن سيد الخلق صلى هنا الصبح فدخل المكان بقوة طريق الهجرة. إلا أن الرويات الأصح تكاد تجمع أن هذا الموضع نال شرف ملامسة الوجه النبوي الشريف لحصبائه ذات زيارة كريمة لسيد الخلق لدار طلحة بن البراء القريبة من “أطم” بني أنيف فاستبق الزيارة بأداء صلاة الصبح في موضع خط الهجرة فاشتهر لدى العامة بمسجد مصبّح نسبة لصلاة الصبح وفق ملفات جوجل عن مسجد بني أنيف وطلحة بن البراء. وتذهب الملفات إلى أن سيد الخلق جاء للمرة الثانية ليستقبل الرضي حيدرة الكرار بعد أن نام على فراش النبي ليلة الهجرة فجاء الرسول الأكرم ليستقبله عند ثنية الوداع في بني أنيف محبة فيه وتثمينا لعمله البطولي. وتكررت الثالثة لدى زيارته صلوات الله وسلامه عليه لأداء واجب العزاء في موت طلحة بن البراء. ومع بدء يوم جديد من أيام السنة الهجرية ١٤٤٥هـ أستدعي بعضا من زيارة مكان من أمكنة خط الهجرة وموضع من المواضع التي تشرفتْ بملامسة وجه الرسول الأكرم واستسقت ماء وضوئه صلوات ربي وسلامه عليه.اللهم سنة خير لعمان.

————————-

لندن في ١٩ يوليو ٢٠٢٣م*من وحي زيارة لمسجد بني أنيف بالمدينة المنورة في الرابع من سبتمبر ٢٠٢٢ صحبة الإبن مازن.

زر الذهاب إلى الأعلى