ماتتْ أطول الملكات وجسور لندن لم تسقط

حمود بن سالم السيابي
ماتتْ أطول الملكات وجسور لندن لم تسقط إلا في الأغنية الراقصة للأطفال “لنْدَنْ بْرِيدْجْ إِزْ فُولِينْجْ دَاوْنْ”. بل ماتتْ بريطانيا التاريخية وشيَّعتْها القارات المحتلة الست إلى مثواها الأخير لتبقى في الملاحم الوطنية والقصائد والروايات أمثال “بقايا اليوم” ل”كازو إيشيجورو” وفي ”متتابعة” جورج فريدريك هاندل لموسيقى الألعاب النارية الملكية ، وفي التماثيل الواقفة تحت المطر في الميادين ، وتُقْرأ في دفاتر الماشين بهدي من فضة القمر المتماوجة على بحار الرمل ، وفي حكايات الجدات حول مواقد الشتاء عن معركة المرسى الكبير واللوحات المضمخة بلحاء شجر العود والقرفاء ومسامير القرنفل وِحلَّاب شجر المطاط. ولأن الأموات لا يعودون فلن ننتظر إجابة بريطانية على تساؤلات شاعرها بيرسي شيلي : “إذا حلّ الشتاء فهل سيكون الربيع بعيداً” ؟…. فالشتاء الإنجليزي بات أطول مما يدور في خَلَد الشعراء ، وعلى شجر الهايدبارك أن يعتاد على غياب اخضرار الأغصان فقد خرج الربيع السياسي لبريطانيا العظمى من سنن دوران الفصول. ولكن من يقنع الدولة العجوز لأن تتقبُّل ثأر الجغرافيا والتاريخ وترضخ للأمر الواقع؟. ها هي بريطانيا تصطنع ملهاة سياسية لأمسها الآفل تحت مسمى “رابطة الكومنولث” لتتوسل بعض البريق للتاج البريطاني ولتنتزع لبلاط “السان جيمس” بعض النفوذ في الجغرافيا الهاربة فتتكرس لندن عاصمة لهذه الملهاة ، ولتستمر الإنجليزية لغة الحوش السابق للبيت البريطاني. ورغم أن رابطة الكومنولث في مظهرها البراق تبدو حلَّا مقبولا كتجمُّع إقليمي له ثقله الوازن بما يمثله من ربع مساحة العالم وربع سكان الكوكب ، إلا أن هذا التجمع لن يضيف متراً واحداً لمساحة بريطانيا العطمى !!! ولن تترتب عليه أية مكاسب سيادية لقصر “باكنجهام” ولا ل”عشرة داوننج ستريت” ، فمشاركة دول القارات المحتلة الست في هذه الملهاة أشبه بمواساة لعزيز قوم ذل دونما التزام بشيئ. ورغم ترؤس الملكة الراحلة ومن بعدها الملك تشارلز لرابطة الكومنولث واصلتْ مساحة الدولة العجوز في التآكل حدّ التناهي في الصغر. ولولا الترسانة النووية التي تجعل طبل الدولة مسموعا ، ولولا حق النقض الفيتو الذي يمنح الدولة خاصية ترقيص عرائس مسرح مجلس الأمن لانطفأ التاج البريطاني.
بل هناك إشارات إنذار تومض وتتمثل في دعوات الانشقاق والانفصال عن الوطن الأم. وحتى المياه الدولية في البحار الباردة والدافئة ما عادت كالسابق مرتعاً للأساطيل البريطانية. وأصبح التفتيش عنها يحتاج لتلسكوبات فائقة القدرة لعلها وعساها أن تصطاد طيف العَلَم البريطاني الصغير بألوانه الحمراء والبيضاء والزرقاء ، وبصلبانه الثلاثة للقديسين جورج شفيع أنجلترا وباتريك شفيع إيرلندا وأندرو شفيع إسكوتلندا. ومرة أخرى يعمل البريطانيون على التذكير بمجدهم الأزرق وبأنهم ورثة أسلاف قهروا البحار فانتصبت في أرجاء المملكة تماثيل أمراء البحار وفي مقدمتهم الأدميرال اللورد نلسون قائد البحرية الأشهر الذي يطل على منطقة ويستمينستر من علو عمود يوناني يتوسط ميدانا واسعاً يحمل اسم “الطرف الأغر “ تخليدا لانتصارات البريطانيبن على نابليون في معركة الطرف الأغر. وما زال الميدان الأشهر في الخارطة السياحية للندن ضمن الوجهات الجاذبة رغم فرار أسراب الحمام التي كانت متعة السياح وهم يبسطون الأكف لها لتنقر الحَبْ.ولعل حمام “ترافلجار سكوير” غصَّ من حبة قمح كهدهد أحمد شوقي فغيَّر موقعه ، ليبقى الأدميرال نلسون وحده على عموده العالي يجدِّف في الهواء لسفن تلفظها المياه. والزائر المثقل بوطأة التاريخ لا بد وأن يتولَّد لديه الانطباع بأن لندن الحالية هي أكبر من استحقاقات المملكة المتحدة. وأنها باتت كبيرة جدا على بريطانيا التي انكفأتْ داخل جزيرتها الحالمة. وأن النسبة والتناسب بين العاصمة والدولة مفقودة ، فلندن صُمِّمَتْ لتكون عاصمة استعمارية للقارات المحتلة الست ، لا عاصمة لجزيرة صغيرة طافية فوق بحر الشمال. ولندن بحجمها الحالي كبيرة بكل ما تعنيه الكلمة وما تستوعبة من تأويل وما تحتمله من دلالات. وهي كبيرة بقصورها التي تلاعبت طويلا بمصائر القارات والأمم. ونسجت داخلها حبائل فرق تسد كثيرا. وحيكت في قاعاتها المغلقة المؤامرات تلو المؤامرات. وهي كبيرة بدروبها وساحاتها التي انطلق منها الجنود إلى ما وراء البحار وهم يغنُّون :“يا إلهٰنا بَعْثِرْ أعداءَناواجْعلهم يتساقطون بَعْثِرْ سياستَهم. أحْبِطْ خُدَعَهم”. وقبالة هذا الخط التصاعدي للندن وهي تتعملق ، هناك الميلان الحاد لخط المملكة وهي تتضاءل ، لتبقى المفارقة الصادمة “لندن العاصمة العظمى لبريطانيا الصغرى”. هأنذا في لندن العظمى بعد انقطاع لأكثر من عشر سنوات ، أعود لأقف على جسر ويستمنستر حيث ساعة “بج بن” تضبط زمن العالم فأتحقق من متانة الجسر الذي مشى عليه الزمان بمعداته ومجنزراته ولم يَمُتْ بموت الملوك والملكات. وأنتقلُ إلى “جسر لندن” وهو الاسم الشؤم الذي تتراسله دوائر القصر الملكي ك”شيفرة” لنعي وفاة الجالس على العرش باعتباره أول جسر ربط ضفتي التايمز منذ قرون ، وقد تم تأهيله بعد سلسلة من نكبات الزمان والكهولة ليفتتح رسميا أمام حركة السير في ٣٠ يونيو عام ١٨٩٤م. برعاية الأمير إدوارد السابع وزوجته ألكسندرا ، وما زال صامدا وقد عبرته مواكب الملوك والملكات وضيوف دولة كانت صديقة الشمس التي لا تغرب عن علمها ، وما زال الجسر على صلابته لم يهتز بموت أطول الملكات ولا بانفصال الهند درة التاج ولا بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأزحف عدة كيلومترات نحو الجسر الأشهر المعروف ب”تاور بريدج” والذي لا تكتمل زيارة عاصمة الضباب دون الوقوف مع الواقفين بجوار حواجزه الحديدية الزرقاء لمتابعة أرضية الجسر وهي تتقوَّس لتسمح بعبور السفن وهو على صلابته في وجه تيارات الماء وشقاوات السفن واليخوت. ولعل الأجمل ما بلندن احتفاظها بتفاصيل تفاصيلها ، فكل شيئ في مكانه رغم تعاقب السنين. وهي أشبه برقعة الشطرنج بملكين ووزيرين وأربع قلاع وأربعة فيلة وأربعة أحصنة و١٦ بيدقا. وقد تتبعثر القطع إن حمي الوطيس ولكن سرعان ما تعود إلى مربعاتها البيضاء والسوداء. وحتى الناس في لندن من النادر أن يغيروا مواقعهم إلا بالموت ليحل أبناؤهم مكانهم فتتوازن المربعات. ومنذ عشرات السنين وساعة “بج بن” مكانها ترن كل ربع ساعة لتذكر العابرين بمقولة الشاعر الانجليزي جون ملتون “إستيقظ و إنهض أو كُن طريحَ الأَرْضِ إلى الأبد”.ولنا أن نحسب الأجيال والأجيال التي تشاقت في ركن الطفولة في الهايد بارك. ونعدد الملوك والسلاطين والأثرياء والفقراء الذين جلسوا على المقاعد الخشبية بطول سكك الحديقة. وما زالت السلطات إلى الآن تؤجر الأرائك الخشبية ذات الأقمشة البيضاء والخضراء للمتشمسين أو المستغرقين في القراءة. وركن الخطابة في الهايد بارك يملأ كل أحد صخبا ويشتبك ويتقارع ويتحاجج الرأي بالرأي. وبجعات البحيرة على العهد بها تختال بكبرياء ملكي وخلفها البطات. وأعمدة “ماربل آرش” بيضاء كزجاجات الحليب التي توزعها بريطانيا في المنازل مع جرائد الصباح. وما زالت سيارات تكسي لندن بمظهرها التقليدي الفخم أيقونة الشوارع مع إدخاد بعض التحسينات في الهيكل لأجل السعة والتكنولجيا المتطورة والأسقف البانورامية. وما زال الباص الأحمر بطابقيه يمخر العباب ، وهواتف الشوارع الحمراء مكانها بذات الحرارة وإن غادرها المتحادثون. ورغم تداول المُلّاك للمتجر الإنجليزي الأشْهر “هارودز” فقد حافظ على مستواه وبذخه وما زال يبيع الأكواب التذكارية بين آلاف السلع الثمينة. وتمدّ عمارة صوت وصورة كراسي قهوتها على رصيف “الادجوار رود” بمذاقها العربي. كما أضاف العرب مطعم “فريج صويلح” في “الإدجوار رود” وآخر قبالة الهارودز. ويطفئ الخليجيون لسعة الشوق في الاحتشاد بلوبي “كمبرلند” وفي احتساء شاي “الديرة” في مقهى “شباتي وكرك” في “نايتس بريدج”. وما زال اليوناني صاحب مطعم “هلبي” في “لانكستر جيت” يحافظ على سمعته في إعداد أطباق الفراخ الصغيرة و “قبولي كتف الضأن” كوليمة عمانية بامتياز”. حتى ذلك السوداني الطيب في “شبرد بوش” يشوي السمك مذ عرفته قبل سنين وبتتبيلة بلد النيلين وعطبرة. وشارع التسوق “أوكسفورد” على صخبه المعهود وهو يقسِّم زبائنه بين القادرين على دخول “سلفريج” و”دبنهامز” والمستثقلين السعر الذين يتزاحمون في “بريمارك” و “أتش أند أم” وبين الصنفين من المتاجر هناك “زارا” و “مانجو” و”نكست” بمواسم التنزيلات التي تعلنها. أمَّا ميدان “البيكاديللي سركس” فيشتعل موسيقى وتقليعات وفوضى. ولربما أزاحتْ كورونا بعض اللافتات أمثال مكتبة الساقي ، إلا أن مكتبة دار الحكمة مكانها في ٨٨ شارع “شولتون”.
وما زال مدخل “كوينزواي” يحافظ على محطته ، وعشاق الثلج يقيسون هناك الأحذية ليتفننوا في التزلج. وما زال “وايت ليدز” مكانه في كوينزواي ومقهى “جارم” يقدم القهوة الإيطالية ويمنح المحتسين الطباشير الملونة ليدونوا الأسماء والعبارات على الحيطان. ولأن لندن تقدس الثوابت فبمقدور السائح أن يمشي على دروبها مغمض العينين تحت مظلته ، تماما كما يفعل العميان الذين يتحسسون دربهم بالعصي البيضاء. إن بريطانيا العظمى ما عادت عظمى ، وهي اليوم بمقاس أهلها الذين عادوا إليها دون أن يأخذوا بالنصائح التحريضيةلشاعرهم “بيرسي شيلي” وهو يدعوهم للبقاء حيث هم : “لا تغادر عندما يصل ظلك أخيرا”. لكن للتاريخ ثاراته ، وقد تم بتر الظل عن الأصل لكيلا يعرف من عليه أن يفرَّ ؟. وأي ظل وصل ؟.








