لمدينة “بيدفورد” عودة لكن الرّفاق القدامى فوَّتوا القطار

حمود بن سالم السيابي
أرددُ “بيدفورد” فتصحو ستة وأربعون عاماً لم يستطع نهر “أوس” محْوَها من دفاتر الذاكرة. وتقترب التاكسي السوداء من محطة “سانت بانكراس” في لندن فيثعب فحيح القطارات من الشرايين. أقفُ عند شباك التذاكر الباردة فأتلفَّتُ يمنة ويسرة لكيلا يبتلع الزحام الرِّفاق. كنت يافعاً في العشرين يوم حملتُ هزالي إلى “كنجز كروس وسانت بانكراس” أسابق زملائي سالم بن رشيد الناعبي وأحمد بن سليمان الكندي ومعضد بن ديين الكعبي وأحمد الرواس وسالم عقيل باعمر ومحمد جداد ومحمد الزعابي وقد رحل أغلبهم وبقيت وحدي والعزيز سالم بن رشيد الناعبي ينخرنا الشوق للأيام الخوالي ونترع قوارير الأدوية لنتشبث بالحياة. وأجيئ اليوم إلى نفس مبنى المحطة ذات المعمار القوطي الطافح بالعظمة أتقشَّع بالمظلة بحجة اتقاء المطر والأصح لكي أتوكأ عليها وأهش بها على غنم السنين الشرود. ولكنني لن أسابق الرفاق إلى شباك التذاكر هذه المرة فقد رميت كل الحمول على الإبن مازن فهو من سيحجز ويختار المواعيد ونوع وسرعة القطار ، وأنا على أرائك المحطة أنتظر لأنزف أمسي المعاند فيصحو ومعه شجر بيدفورد وأبراج كنائسها المحنطة. أقتات لحيظات الانتظار بالتنقل بين عناوين صحيفة إنجليزية تركها جالس قبلي ، وأطالع صوري التي التقطها مازن ونحن عند واجهة المحطة قبل أن ندخل فأعرك شاشة الهاتف كثيراً لأحفز الصور الباهتة لتبرق. وأستعين بتقنية “الفوتوشوب” و “الفلاتر” فأسكب ألوانا لعلها تخفي تضاريس الأمس فلم أفلح. لكنني لست وحدي الذي كبر ، فمحطة “سانت بانكراس” التي تشغِّلها شركة قطارات “إيست ميدلاند” تتجمّل هي الأخرى لتخفي تجاعيد أكثر من قرن ونصف القرن منذ أن افتتحت عام ١٨٦١م. كل شبر في “سانت بانكراس” ينبض بالأناقة المعمار ية القوطية الجديدة. وكل زاوية تطفح بشخصية مهندسها “جورج جيلبرت سكوت” الحاصل على “جائزة ريبا” والذي وضع وشْمه على ٨٠٠ مبنى في أنحاء بريطانيا قبل وبعد هذه المحطة. تحتويني ومازن عربة قطارات فاخرة غير التي عهدتها مع الرفاق القدامى. لكن ريف إنجلترا على حاله لا يكبر مذْ تركته “مساحي” و”شيولات” الفلاحين. وما زال بنفس تفاصيل سهوبه الخضراء التي تذكِّر بمرتفعات “ويذرنج”. وبخيوله الكستنائية التي ركضت من “يوركشاير” إلى خطوط النهايات في مضامير العالم لتنتزع التصفير والتصفيق والجوائز. وببحيراته التي نغطس في زرقتها بأعيننا فتعيدنا إلى قصائد “روبرت ساوذي” وهو يتعقّب أثر “بلنهايم” التي تجلس وحيدة وهي تلتحف غيوما من المسك في نسيم الصباح العبق”. تحرك القطار من محطته اللندنية الباذخة ومضى يسابق الشمس نحو الشرق فاستكثرنا النظر إلى رغوات قهوتنا في الأكواب الورقية التي صحبتنا من محطة الانطلاق حتى لا نفوِّت رؤية البلدات الريفية التي تتوالى على خط سانت بانكراس – بدفورد. هذه بلدة “كنتش” وتلك “غرب هامبستيد” وعلى بُعد فحيح تطل “كليك وود” فمحطة “هندن” فتلال طواحين “برودواي فأليستري وبوريهام وود” ثم “رادلت” و”سانت ألبانس”. بعدها اصطخب الأفق بحركة الإقلاع والهبوط في محطة مطار “لوتون” ثم مدينة “لوتون”. ثم تواصلت المدن على خط القطار الذي تشغِّله شركة قطارات إيست مدلاند ليربط لندن بأراضي وسط إنجلترا فنقترب من “ليجراف” ف”هاربنجتون”. ثم يفرفر القلب حين تومض الشاشة الألكترونية بمحطة “فتويك” لتنهض بيوتها المسكونة والتي كانت حديث الصحافة البريطانية عن أشباح يعودون للفنادق القديمة بوجوه معروفة مرّ عليها مائة عام. لكن ذلك لا يرعبنا فالقطار على بعد عقة إضمامة ورد من “بيدفورد” حيث “حلب رحلتنا” التي زممنا إليها مطايا الإنجليز ونحن نردد مع المتنبي:لا أقمنا على مكان وإن طابولا يمكن المكان الرحيلكلما رحَّبتْ بنا الروض قلناحلب قصدنا وأنت السبيلفيك مرعى جيادنا والمطاياوإليها وجيفنا والذميلوعند الدقيقة الأربعين من آخر العهد بلندن شَعَّتْ بيدفورد على شاشة القطار السريع ووَمَضَتْ معها ستة وأربعون عاما كأنها الأمس. وكأنَّ سالم بن رشيد الناعبي يجالسني على نفس عربة القطار بشعره الأسود كقهوتي ، وبضحكته الصَّافية كمياه الخطمين. وكأن أبا الأزهر أحمد الكندي يرتشف ذات القهوة في العربة فتعبق قهوة “سبلات الغريض” وكأن معضد الكعبي يسابق القطار بخيول الشعر التي يسوقها إلى “وادي شرم” في محضة. وكأنّ أحمد الرواس بشموخ سمحان المجلبب باللبان وسالم بن عقيل باعمر بغُرَرِ السادة وعطر الثوار فتزدان المشاوير ونتمنى لو تطول. ما زالت محطة قطارات بيدفورد على حالها صغيرة كطفولتنا وبسيطة كحياتنا لولا الشاشات الألكترونية التي تصفِّر وصولا ومغادرة. ولولا المصعد الكهربائي الذي ينقل الركاب بين السِّكَّتين. ولولا المقهى الذي أدخل التقنيات الحديثة في إعداد “الأمريكانو” و”الكباتشينو”. كان سائق التاكسي الذي نقلنا من المحطة هنديَّا طاعناً في السن مما رفع سقف الأمل في استرداد بيدفورد الناعسة في مهاد عقود على آخر العهد فأمطرناه بالأسئلة عن الأمكنة والوجوه والمسافات :”وَكَثيرٌ مِنَ السُؤالِ اِشتِياقٌوَكَثيرٌ مِن رَدِّهِ تَعليلُ”لكن كهولة السائق للأسف باعدتْ بيننا وبين الإجابات عن بيدفورد ، فجلّ همِّه أن ينهي المشوار القصير إلى غايتنا ويثبت عينيه نحو عدَّاد الأجرة ليعود إلى المحطة لاقتناص راكب جديد. قلت للسائق بثقة ابن بيدفورد وأنا أبتسم بعيني إلى “موتا هوتيل” من فضلك ، فتبسَّم لجهلي بجديد البلدة. أردفتُ : ألا تعرف “موتا هوتيل” الذي يقتسم مع فندق “سوان هوتيل” ضفتي نهر “أوس” فازدادت ابتسامته الساخرة اتساعاً وكأنه يقول كما في المسلسلات الكويتية : “أووه خبرك عتيج”. توقف السائق عند نفس الفندق الذي أقصده ففهمت متأخرا سرَّ ابتسامة السائق العجوز وأنا أقرأ اسم الفندق الذي تبدل فأصبح فندق “مير كيور”. أطالع الفندق فأراه على حاله بشحمه ولحمه وشرفاته التي تساهد “نهر أوس”. دخلتُ الفندق لأجدِّد الزيارة تحت اسمه الجديد ، وسرعان ما غادرته إلى الضفاف المُعْشِبة. سرَّحْت في مياه “نهر أوس” التي لم تتبدَّل ، إنها زرقاء كضحكة السماء ، وخضراء كأراجيح الشجر ، وهي رمادية في الأغلب بلون الضجر في عيون البجعات وأحزان الذين يتحسرون على أعمار لم يزرعوا فيها شجرا ليبقى بعدهم الظل. إتكَّأْتُ على أريكة خشبية تعرفني كثيرا عند ضفة النهر وعليها خربشات من جلسوا وأخاديد من عبروا فأغمضت عيني ونسيت نفسي. هفهف الشجر ومعه الزمن الذي سفحته هنا كل سبت وأحد مع الرفاق لنهرب من جدران البيوت “البيدفوردية” الريفية الضيقة ولنكسر روتين المطبخ الانجليزي. هنا كنا نلتقي لنستدعي نخيلنا لتصطف مع شجر النهر فتدلق اللون النيلي عليه. ونستدعي وجوه آبائنا وعمائمهم فنتبرع لنهر أوس بلون السحاب. مشيت باتجاه “التاون بريدج” بأقواسه الخمسة الغائرة في النهر لأقرأ لافتة بعمر الجسر الذي شيد عام ١٨١٣ م. وكان المرور عبره نظير مقابل ، ثم فُتِحَ للعامَّة بحلول عام ١٨٣٥ في عهد الملك وليم الرابع. عبرتُ الجسر فانتعلت أحزاني وأنا اقترب من فندق “سوان” أو البجعة وهو مكانه منذ زمننا البيدفوردي. ما زالت المحلات ذاتها وإن تغيرت بعض اللافتات لتعكس نوع النشاط الذي استجد. هنا كان موقف الباصات الحمراء لتحتله اليوم أكشاك السوق الشعبي. هذا تمثال ابن بدفورد القس “تريفور هيديلستون” الذي سافر به أهله وهو في قماطه فعبروا به بحر الشمال فالمحيط الأطلسي حتى جنوب القارة الإفريقية في المحيط الهندي ليستقر هناك في بلد التمييز العنصري فيتقلب في المناصب الكنسيَّة. إلا أن لم يشبه الرجال البيض الذين تعسفوا بالسُّود وساموهم سوء العذاب. لذلك جاء نيلسون مانديلا خصيصا إلى بيدفورد لزيارة رجل قال عنه “أنه الرجل الأبيض الوحيد الذي خدم جنوب أفريقيا” فكان هذا التمثال ليؤرخ ل “تريفور هيديلستون” ومانديلا معاً هكذا تقول الكتابات عند حواف التمثال. ما زلتُ في “الهاي ستريت” فأقترب من تمثال لبيدفوردي آخر ولعله الأشهر وهو “جون بنيان” الذي يُصَنَّف كأشهر كتاب الأدب المسيحي وهو بنفس شموخ وقفته يتلقى تحية الماشين وكاميرات الهواتف. وما زالت المساحة الخضراء تنبسط خلف التمثال لتنتهي بكنيسة سانت بيتر. وهنا تحت أقدام “جون بينان” ينتهي “الهاي ستريت” فيمتد بمسمى آخر هو “ذي برودواي”. ويتفرع على شمال التمثال شارع يحمل اسم كنيسة “سانت بيتر” وبجانبه كانت دار سينما وقد شاهدنا فيها فيلم “الفك المفترس” الذي أنتجته السينما الأمريكية أواسط السبعينيات. لقد ابتلع الفك المفترس بعض مفردات شارع سانت بيتر بما في ذلك مبنى السينما التي لم تعدْ هناك. أمّا على اليمين فيحمل ظل الشجر الماشين نحو شارع “دي برايز اف”. تتثاقل خطواتي لأسترد عناوين عام ١٩٧٧م فأسْلك شارع “ذي برودواي” وأترك على اليمين تفريعة شارع “فوستر هل رود” ثم شارع “ولنجتون”. وتتوالى على اليسار المطاعم الهندية التي أعادتنا يومها لمطاعم مطرح وروي وقد تغيرت الأسماء ولم تتغير الأطباق المشعشعة بالتوابل والفلفل. ينتهي “ذي برودواي” كمسمَّى ويستمر كمسار تحت اسم “تافيستوك ستريت” بحثت عن بنك “باركليز” فلم أجده هو الآخر ، وكذلك شارع “ذي كريسنت” حيث كان مبنى معهد بدفورد لتعليم اللغة الانجليزية. ناديت “مسز ديفز” مديرة المعهد فلم ترد. وكرَّرت في سمع الأفق ندائي للأستاذ “إليمون” فلم يسمعني. وبحَّ الصوت وأنا أصرخ في “كولدر الأسكوتلندي”. وكان علي أن أعبر المنطقة الإدارية إلى الضواحي السكنية حيث الكوخ رقم ١٤ لعل “جوليا الجامايكية” ستفتح الباب فهذا وقت الغداء وهي خير من يعد “الجريز” الجامايكي. ولكنني تركت “جوليا” قبل ٤٦ وهي تسير في الخمسين ، ولو عاشت إلى الآن فذاك يعني أنها تجاوزت التسعين وبلغت من العمر عتيَّا فصرفت النظر عن كوخها وعن “الجريز” الجامايكي. وعدنا أدراجنا وبيدفورد التي زرناها في ١٩ يوليو ٢٠٢٣م. كانت مشمسة وكانت تستعد لمساء بارد فأنهينا التطواف بوجبة “الفِشْ أند شيبس” بطعم الأيام الخوالي في أحد مطاعم “الهاي ستريت”. وفي رحلة العودة من ذات المحطة توزعنا على مقاعد ذات القطار الذي واصل فحيحه ليمسح تعب ما مشاه. إلا أن موسيقى العودة لم تكن بفرحة المجيئ فتلهَّيْتُ بزفرات صدر الشاعر الانجليزي اللورد بايرون :”هكذا إذًا: سنَكُفُّ عن التجوال حتَّى آخرِ الليلِ رغمَ أنَّ القلبَ ما كفَّ عن عشقهِ القديمرغم أن البدرَ لَمّا يزَلْ في بَهاه”









