القصور السلطانية في زنجبار (4) “استراحة السعادة”
بقلم / ناصر الريامي
نتابع في هذا التقرير مُجريات رحلة مركز ذاكرة عُمان إلى القصور السُّلطانية في زنجبار، وهي الرحلة التي سطرتُ لها – حتى لحظة كتابة التقرير الماثل – ثلاثة تقارير مُعززة بصورٍ فوتوغرافية، بعنوان (القصور السلطانية في زنجبار 1، 2، 3). فبعد الانتهاء من زيارة قصر “بيت المتوني”، انتقلنا إلى استراحة بيت السعادة، بدلالة خبير الفريق الفني، ربيب القصر، وأكثر الناس قربة إلى السلطان خليفة بن حارب، الأستاذ رياض بن عبدالله البوسعيدي، الذي قدم لنا دررًا من القصص والروايات والتفاصيل المتصلة باستراحة السعادة؛ ليس للفريق الفني فحسب؛ بل حتى للقائمين على القصور، الذين يعرفونه جيدًا، لسبق الاستعانة به في خواتيم العام المنصرم، 2022م، بمناسبة افتتاح متحف استراحة السعادة. وللأمانة العلمية، أقر هنا بأن كل ما هو متصل بماضي الاستراحة، مستفاد من شرح الخبير لنا، وأسئلتي المتكررة له، في مناسباتٍ أخرى. تقع استراحة السعادة في قرية كيبويني، على بعد ستة كيلومترات من قلب المدينة الحجرية، وهي على مقربة من قصر المتوني، الذي بناه السلطان سعيد بن سلطان، وقصر المرهوبي، الذي بناه السّلطان برغش بن سعيد، والذي اندثر أكثر أقسام الأخير، بفعل الحريق الهائل الذي اندلع فيه بعد وفاة السلطان برغش بأحد عشر عامًا؛ وتحديدًا، في عام 1899. ومما يُذكر، فإن هذا القصر الأخير كان آية في الجمال والبراعة والذوق الرفيع، وفق الأدبيات التاريخية التي اطلعنا عليها. ولوقوع الاستراحة في قرية كيبويني، حسب الإشارةِ المتقدمة، طبَقَ عليها اسم القرية، فدرج البعض، عند حديثهم عنها، على استخدام اسم “استراحة كيبويني”؛ بينما درج آخرون على استخدام اسم “قصر كيبويني”. وقلّما أشير إليها باسم استراحة السعادة، إلا في بعض الكتابات العربية. وعلى عكس حال القصرين آنفي البيان؛ فاستراحة السعادة التي شُيّدت في سلطنة السيد خليفة بن حارب، في عام 1915م، وجدناها في حالةٍ مقبولةٍ نسبيًا، بسبب أعمال الصيانة البسيطة التي حظيت بها، وإن كانت بين فتراتٍ مُتباعدة. فإلى زمنٍ قريب، استخدمتها الحكومة المحلية في بعض المراسم الرئاسية؛ كما كانت مقرًا لسكن الوزير الأول – يعادل كبير الوزراء في الحكومات المحلية – في سنة 1986م، لفترةٍ وجيزة؛ إلى أن تقرر تحويلها إلى متحفٍ وطني، وافتتح أمام الجمهور، ابتداءً من الربع الأخير من عام 2022م. هذه الاستراحة التي كان يأوي إليها عظمة السلطان خليفة بن حارب (1911 – 1960)، في عطلات نهاية الأسبوع، وفي الأوقات التي حرص فيها عظمته على الابتعاد عن ضوضاء المدينة، وصفها المؤرخ الشيخ سعيد بن علي المغيري، في جهينته التاريخية المشهورة، بما مفاده: أن القصر يمتاز بالقرميد الأحمر الذي يغطي أسطحه، ومنارته المتميزة، المربعة الشكل. فور دخولنا من بوابة الاستراحة، أخذنا نخطو بتؤدة شديدة، نتفقد جمالية المكان، والحديقة الجميلة المحيطة بالاستراحة. لفتت انتباهنا شجرة مانجو، على يمين الاستراحة، للقادم من الخارج، عظيمة الحجم، وفيرة الظل، يبعث لون أوراقها الأخضر الداكن الحيي على الراحةِ والسكينة في النفوس التعبة، فكيف بالنفوس المنبسطة. انجذبنا نحوها لا إراديًا، فلاحظ الأستاذ رياض البوسعيدي، أعزه الله ونصره، ما ارتسم على وجوهنا من علامات الاستحسان لتلكم الشجرة، التي تسرّ الناظرين فعلًا؛ فتدخل موضحًا: أنها من نوع ألفونسو، هندي الأصل، وأن السُّلطان خليفة زرعها بنفسه، في الفترة التي أعقبت افتتاح الاستراحة، في سنة 1915م، أو نحو ذلك. مؤكدًا أنه ما يزال يذكر حلاوة ثمارها، وأنه علم من أحد المسئولين، عندما قدم لهم محاضرة في غضون العام المنصرم، أنها لا تزال كذلك، وأنهم “أي المسئولين” يطلقون على ثمارها اسم (فيسوكاري)، أو (Visukari)، وهي تعني بالسواحيلية، “السكري”، أو “ثمار صغيرة شديدة الحلاوة”، في إشارة إلى أن حجمها صغير بالمقارنة بنظيرتها الزنجبارية، وأكثر منها حلاوةً. أخذنا نتفقد الإطلالة الرائعة للإستراحة على شاطئ المحيط، فألهمني ذلك المنظر الخلاب لممارسة هوايتي في التصوير؛ فالتقطتُ مجموعةً من الصور الفوتوغرافية، في محاولة مني لنقل سحر المكان وروعته لجمهور المتابعين؛ ولكن، أنّى للصور أن تعدل في هذا الأمر. انتقلنا بعدئذٍ إلى الاستراحة، وقبل صعود سلمها الأنيق الذي يشي بجُل معاني العظمة والأبّهة، استحضرت ذلك المقطع المرئي المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يعرض نزول السلطان عبدالله بن خليفة من السلم، وينزل خلفه سمو الأمير حارب بن عبدالله، بينما يصطف بجانب السّلم ثلةٌ من أفراد الشرطة، التي أدت له التحية العسكرية بالسلاح، ويبدو أحدهم ينفخ على آلة الساكسفون، تحيةً لعظمته. تتكون الاستراحة من ثلاثة طوابق، طابق أرضي، تعلوه طابقان اثنان. يتكون الطابق الأرضي من عددٍ قليل من الغرف، خُصصت لمن يتقرر مرافقة السلطان من أفراد الأسرة المالكة الكريمة، كما يشغلها الضيوف أحيانًا. توجد بجوار السلم غرفة للحارس، مزودة بجهاز اتصال تلفوني، من النوع الكلاسيكي العتيق، المتكون من صندوقٍ خشبي مثبت على الجدار، ومعلق على أحد جانبيه سماعة مخروطية الشكل، تسمح لمستخدم الجهاز بسحبها وإطباق طرفها العلوي على صيوان الأذن، للاستماع إلى منطوق الطرف الآخر؛ وميكروفون، أو ناقل صوت، مثبت على واجهة الصندوق، ووحدتين من جرس معدني، مثبتين على واجهة الصندوق أيضًا. فإذا ما قرر عظمة السلطان زيارة الاستراحة، يتم الاتصال بالحارس الذي يتواجد، بصفةٍ دائمة، في هذه الغرفة، أو في محيطها، وتنقل إليه التعليمات بتجهيز الاستراحة، لاستقبال السلطان أو ضيوفه. ومتى ما وصل السلطان للإستراحة، شوهد العلم الدولة الأحمر يرفرف على منارتها المربعة الشكل؛ وفردًا من أفراد الشرطة، يقدم استعراضًا لحركاتِ المشاة العسكرية، جيئةً وذهابًا، أمام البوابة الخارجية للاستراحة. يؤدي الفرد تلك الحركات وهو يحمل بيساره بندقية، مسنودة إلى كتفه الأيسر. كما يظهر ببزته العسكرية الأنيقة، المكونة من جاكيت أبيض، وبنطالًا كُحلي اللون، موشحًا بخيط أحمر على طوله من الجهتين، ويعتمر طربوشًا أحمر اللون. بدخولنا المجلس الكبير الكائن في الطابق الأول، أفاد خبيرنا ما مفاده أن قطع الأثاث المتنوعة، التي تعج بأركان المجلس، والاستراحة بالمجمل، لم تكن في الأساس من متعلقاتها؛ وإنما أحضرت من قصر “بيت السركال”، و “بيت العجائب”. وتوضيحًا لذلك، أفاد: بسبب الوضع المتردي، الذي آل إليه البيتان المذكوران، تقرر غلقهما وحجب جمهور العامة عنهما، منذ ما يربو على الثلاث سنوات، مخافةَ الإنهيار بالكامل، بعد أن انهار جزء من بيت العجائب؛ ليعقب ذلك نقل أغلب أثاثهما، إلى متحف استراحة السعادة (قصر كيبويني). وعليه، فإن هذا الوضع قد يحدث لبسًا لزوار المتحف، لإعتقادهم خطأً أن الأثاث المعروض، هو ذاته الذي تزينت به الاستراحة في فترة السلطان المؤسس لها، ومن جلس على عرش زنجبار من بعده. وحول مسمى “بيت السركال”، أرى من المناسب هنا أن أوجز ما أوضحته في خاتمة الحلقة الأولى من الموضوع الماثل، مؤكدًا أن المسمى وجد بعد إعادة بناء “بيت الساحل”، إثر تعرضه للقصف البريطاني في سنة 1896م، في الحادثة التي عرفت بـ”أقصر حربٍ في التاريخ”؛ وأن كلمة السركال، تعني الحكومة. وجدنا أمام كرسي العرش، في المجلس الكبير، طاولة قهوة متوسطة الحجم، ثمانية الأضلاع، يبدو من مظهرها وطرازها أنها سورية المنشأ، مرصعة بأشكال هندسية مصنوعة من الصدف، مكتوب عليها بالصدف أيضًا، عبارة: “العدل أساس الملك”. وهي في الأصل كانت من أثاث بيت السركال، وتحديدًا في مكتب السلطان خليفة في الطابق الأول. الطابق الأول للإستراحة، مخصص للمجالس وغرفة للطعام، متوسطة الحجم، مثبت في منتصف سقفها مروحة من التراث الهندي، كبيرة الحجم – كتلك التي يستخدمها ملوك الهند قديمًا – تحرك بالقوة البشرية، مصنوعة من الحرير، موصل أحد طرفيها بحبلٍ أنيق، يمتد عبر السقف، نزولًا – في نهاية الغرفة – إلى يد أحد المستخدمين، الذي يداوم على سحب الحبل تارة، وتحريره تارة أخرى، لإحداث حركة التهوية. ومع ذلك، فالمؤكّد يشير إلى أنه تم التعامل مع المروحة كقطعة إكسسوار، دون الحاجة إلى استخدامها؛ فنسيم البحر كان كافيًا لتلطيف الجو في الغرفة. كان يصل إلى غرفة الطعام مصعد خاص للأكل، يأتيها من غرفة الخدمات في الطابق الأرضي. يُذكر، فإن غرفة الطعام هذه، حولتها إدارة المتحف إلى غرفة لعرض متعلقات السيدة سالمة بنت سعيد، وبيان قصتها المشهورة مع التاجر الألماني .. تلك القصة التي يعشق الجمهور في زنجبار، عامة؛ والغرب خاصة، العزف على أوتارها، لغايةٍ في نفوسهم، والله المستعان. توجد في الطابق الأول أيضًا دورة مياة خاصة للضيوف، إضافة إلى شرفة كبيرة أمامية، مطلة على الحديقة؛ وأخرى خلفية مطلة على المحيط. أما الطابق الثاني، فمخصّص لغرف النوم فقط، ولم تشتمل الاستراحة على مكتبٍ للسلطان؛ مما يشير إلى أن المكان خُصص للراحة التامة، دون العمل. في ختام عرض الموضوع الماثل، الذي امتد لأربع حلقات دسماتٍ، آمل أن تكون نافعات .. وبعد أن زرنا بعضًا من قصور سلاطين زنجبار، ووقفنا على قبورهم؛ وشاهدنا بأمهات أعيننا إنجازاتهم العظيمة، التي خلدها من أطلق على نفسه، إلى جانب أسماءٍ أخرى، الملك والعدل والحق واللطيف؛ وتلمس عدل هؤلاء السلاطين، رغمًا عن أنوف الجاحدين، كلُّ حصيفٍ أريبٍ عاقل .. أتضرع إلى من رفع السماوات من غير عمدٍ، وإلى من لا يزول ملكه، أن يرحم من قد زال ملكهم، وأن يعفو عنهم ويثبتهم عند السؤال. كما أتضرع إليه أيضًا أن يعيد إلى من تبقى من العرب في زنجبار، مجدهم، وهيبتهم، وكرامتهم وعزتهم؛ بعد أن لحقهم الوهن، وكثير من العدوان، في الأنفس والأموال، بعد أن تكالبت على النظام قوى خارجية غاشمة، أطاحت بالدولة في مجزرة يناير الأسود لعام 1964م، والتي عُرفت بأسوأ مذابح القرن العشرين. “استراحة قصر السعادة”